وقف العمل بالاتفاقيات والأسئلة المشروعة!

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد المجيد سويلم

يكاد يجمع معظم المراقبين والمحللين والمتابعين على أننا ندخل مرحلة جديدة مع قرارات القيادة الشرعية بوقف العمل بالاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي.
وباستثناء بعض الأصوات المغرضة، والتي تنعق في فضاء التشكيك وإثارة اليأس والإحباط، فإن ما يشبه الإجماع قد تشكل في الواقع السياسي بعد الإعلان عن هذه القرارات.
بل إن غالبية «لا بأس بها» من هذا الإجماع ترى أن القيادة الفلسطينية الشرعية ربما تكون قد «تأخرت» بأخذ هذه القرارات أكثر من اللازم، وهو أمر في حقيقته يؤكد الإجماع ولا ينتقص منه.
وهناك طبعاً من الأصوات التي تعتبر أن هذه القرارات ستظل ناقصة دون أن يتم «استكمالها» بقرارات جديدة «للخروج التام» من كامل المساحة التي تكرست في الواقع الفلسطيني، وفي واقع علاقات هذا الواقع بإسرائيل.
كل هذا واضح ومفهوم ومتفهم، وكله «طبيعي»، وكله سياق محتوم لأمراض اللحظة وصعوباتها، وتراجع الوعي بإشكالياتها. 
حفلات المزاودة لن تتوقف، وموجات وحملات التشكيك لن تتراجع، والإجماع الشعبي على أهمية القرارات سيزداد، وعقلنة التصرف ستتقدم إلى الأمام وستقضم من مساحة الحفلات والموجات والحملات بقدر ما يمتلك الناس من وعي متجدد حول مغزى القرارات، وأهميتها، وتداعياتها، وتأثيراتها المحتملة.
إذا كانت هذه القرارات حسب كل القراءات التي اطلعنا عليها نتفق بأنها ليست «تكراراً» لقرارات سابقة تم اتخاذها في المجلس المركزي، وأنها ـ أي القرارات ـ تجاوزت «المناورة» الإعلامية والسياسية، فإن هذا الأمر يحتاج ـ كما أرى ـ إلى مراجعة سريعة لأصل المشكلة وأساسها وجذورها الحقيقية، وليس الأصول والأسس والجذور المتخيلة.
اتفاقيات أوسلو كانت ـ في فكر ورؤية القيادة، آنذاك ـ عبارة عن ممر إجباري فرضته ظروف ومتغيرات هائلة. 
للتذكير فقط، كانت هذه الاتفاقيات نتيجة مباشرة لانهيار المعسكر الاشتراكي، وتدمير العراق، وانتكاس الحالة العربية، وتفرد الولايات المتحدة المطلق بقيادة العالم، وحصار المنظمة، وتضييق «الخناق» العربي عليها، خصوصا بعد بدء التراجع الاستراتيجي للانتفاضة الكبرى. 
هنا يكمن مفهوم «الممر الإجباري».
ولكن القيادة في ذلك الوقت والتي لم تكن تفرق بين حصار المنظمة وحصار القضية، وقد تكون على حق ـ ارتأت أن هذا الممر ربما ينطوي على فرصة تاريخية جديدة للإفلات من تبعات المتغيرات الدولية والإقليمية، ولتأسيس وضع جديد من الداخل ونقل القضية من دائرة التاريخ إلى دائرة جنينية من الجغرافيا السياسية.
وارتأت القيادة، أيضاً، أن هذه الاتفاقيات ستضع الحقيقة الفلسطينية من جديد على طاولة العالم، وتعيد لها أهميتها وبريقها ومركزيتها، بعد أن كادت تلك الظروف والمتغيرات تحولها إلى أحد هوامش الإقليم ليس إلاّ.
أحد أهم مثالب «أوسلو» كان التسرع بأن يكون الاعتراف بإسرائيل مقابل اعترافها بمكانة المنظمة، وليس بالدولة كحق طبيعي ومكتسب من هذه الاتفاقيات، بالإضافة إلى مثالب أخرى ليس أقلها شأناً مسألتا ـ الأرض وكونها ليس مجرد أرض متنازع عليها ـ وكذلك صيغة محددة وملموسة لوقف الاستيطان وعلى أن تكون ملزمة وبضمانات دولية.
ربما يكون دخول (الإسلام السياسي) على خط «المواجهة» في ذلك الوقت والبدء الفعلي بمنافسة هذا (الإسلام السياسي) على تمثيل الشعب الفلسطيني، والشروع في شق الحركة الجماهيرية، والعمل على تدمير هذه الاتفاقيات في مخططات حركة حماس (خوفا من ترسيخ واقع فلسطيني جديد يقطع عليها طريق برنامجها الإسلامي الخاص، ودورها المستقبلي).... 
ربما يكون هذا الدخول هو ما يفسر تسرع القيادة آنذاك واستعجالها في عقد تلك الاتفاقيات.
لكن في التطورات القاتلة للأداء الفلسطيني كان «الوثوق» بأن نهاية المرحلة الانتقالية ستعني بالضرورة الانتقال من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة هو التطور السلبي الأكبر، وتحولت مسألة فتح المرحلة الانتقالية إلى الآليات المباشرة والمناسبة لتنصل الجانب الإسرائيلي من الاتفاقيات، والعمل بصورة منهجية ومخططة لإجهاض تحويل الحكم الذاتي المحدود إلى دولة وطنية مستقلة.
وربما لهذا كله ولأسباب بنيوية في واقع المنظمة وواقع الحركة الوطنية الفلسطينية، فقد جاء الأداء الفلسطيني هشاً و»انتقالياً» مساوماً، ليس بالمعنى الوطني للكلمة، وإما مساوماً في قضية بناء نموذج فلسطيني مؤسسي ديمقراطي فعال، لم يتمكن من «إقناع» الناس بأهمية السلطة الوطنية بما يكفي، ولم يرسخ هذا البنيان والذي هو وطني بامتياز باعتباره قلعة للصمود الوطني وكقاعدة ارتكاز قوية لمتابعة المسيرة الكفاحية في كل الظروف.
ويمكن القول إن عيوب ومثالب أوسلو ربما كانت تحدّ من قدرة القيادة الفلسطينية على بناء ذلك النموذج، لكنها مع ذلك ما كانت تمنع القيادة من العمل الجاد للتكيف مع تلك الظروف لبناء الحدود الدنيا الضرورية لبناء النموذج.
وكان بمقدور المحاولة الجادة لهذا التكيف أن تخلق هي بدورها درجة فارقة ونوعية، إن كان لجهة موقف الشارع الفلسطيني أو لجهة دعم المجتمع الدولي لهذا النموذج الناشئ.
لم تكرس اتفاقيات أوسلو بما انطوت عليه من «غموض» والفرصة التي أتاحها هذا الغموض لإسرائيل من تغوّل وإمعان في التنصل من هذه الاتفاقيات، وإنما تكرست وقائع حيوية وحساسة من الروابط والصلات والشبكات تتعلق بالعلاقة الفلسطينية الإسرائيلية، في كل المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية الاجتماعية، وكذلك الفنية والمالية واللوجستية.
والناس في ضوء هذه الوقائع بالذات بحاجة إلى أن يعرفوا مآل القرارات الأخيرة حول وقف العمل بالاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي، وفيما إذا كانت النتائج التي ستترتب على بدء تنفيذها ـ مهما كان الأمر مدروساً ومتدرجاً ـ ستتطلب منهم ما تتطلبه.
وإذا كان الأمر كذلك ـ وهو فعلاً كذلك ـ الناس يريدون أن يشاركوا في المعرفة والتعرف لكي يتحملوا المسؤولية الكاملة عن كل التبعات.
وهذا هو ما أطمح بمعالجته في المقالة القادمة.