الثقافة الفلسطينية الراهنة

g7iuh.jpeg
حجم الخط

بقلم: د. أحمد قطامش

 

كل ما اتينا عليه حاضر بهذه الدرجة او تلك على قاعدة ان الثقافة كما التاريخ صيرورة تمضي عبر الزمان والمكان، ينطفئ ما شاخ فيها او يتهمش ويتوالد الجديد ويشتد ساعده ارتباطا بالمتغيرات والمنعطفات وتساوقا مع شجرة الحياة ، فالثقافة تواكب الخضرة. انظروا الى الثقافة الأوروبية اين كانت في زمن الاقطاع والكنيسة ما قبل الدولة القومية والثورة الصناعية والتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الرأسمالية وأين أصبحت اليوم ، وأين كانت الثقافة الصينية التي طغت عليها البوذية والتشرذم وحروب الامراء والجهل والاستبداد الامبراطوري ما قبل انتصار الثورة 1949 وأين أصبحت في زمن القفزات الاقتصادية والعلمية والمرحلة الانتقالية من التحولات الاشتراكية و( التنمية في مصلحة الطبقات الشعبية ) د. سمير امين والدولة المركزية القوية بقيادة حزب شيوعي (95 مليون )…. وأين كانت البشرية في بواكيرها الاقواميه القبائلية الترحالية ( بقاياها موجودة لليوم) والقرى الزراعية الصغيرة وما أصبحت عليه في الالفية الثالثة وثورتها التقنية وتجلياتها في الاعلام والفنون والعلوم. والبحث والازياء والاطعمه والعادات.

التاريخ العربي مفوّت، فهو على حواف او بدايات الثورة الصناعية والرأسمالية ” الممحوطة ” ومثقل بالبنية الاقتصادية – الاجتماعية – الثقافية التقليدية التي تتصف بقصور الدينامية على كل الصعد. وحسبنا تذكر ان 430 مليون ينتجون مجرد 2 تريليون $ سنويا نصفها طاقة متموضعه في باطن الأرض وقلما تحظى دراسة او رواية او اغنية او مقطوعة موسيقية او لوحة فنية او فرقة رياضية او اختراع او جامعة بجائزة او اعتراف دولي… وابرز العقول تلجأ للعواصم الأجنبية فراراً من بطش الاستبداد او بحثا عن المغريات والحريات . اما التاريخ الفلسطيني فهو مفوّت الى درجة ان الوطن لم يستقل بعد والشعب المهجّر لم يعُد الى دياره بعد، ومسيرة من كفاح طويل لم تمنع انقسام الساحة الفلسطينية وكل ما هو فلسطيني بين نهج أوسلو والنهج المناهض دون قدرة من النخب على توحيد الموقف السياسي أو الميداني والاخلالات فانتشرت ثقافة الشرذمه في كل شيئ.

ومن جانب اخر ثمة متغيرات ففيما كان يقطن المدينة العربية مجرد 3% في بدايات القرن العشرين و97% في القرية والبادية بما تحمله المدينة من ثقافة هي خليط من اليوم والامس. مهما تغوّل الطابع الخدماتي والاستهلاكي للمدينة العربية، ففيها كهرباء وجامعة وشركات واحياء حديثة وبعض الصناعات وشرائح برجوازية وعمالية وطبقة وسطى من خريجي الجامعات ومرأة تتعلم وتنخرط في العلمية الاقتصادية وبدايات مجتمع مدني بالمعنى الحقيقي لا الانجوزي الممول اجنبيا وتجارب حزبية “حديثة ” وفنون وإنتاج ادبي وملابس عصرية وتفكير يغلّب العقل على النقل بما يعيد الاعتبار لابن رشد .. وما كان يكتب عن النزعة الاقتصادوية بإحراز تنمية اقتصادية دون ان يصاحبها بالقدر نفسه تنمية ثقافية واجتماعية ، صحيح نسبيا اذ استمر الفكر القديم غير العلمي وغير النقدي والاقصائي والتكفيري لكل ما يخالفه الى درجة استدعاء مفردات قديمة من مراحل قديمة ( تقسيمات مذهبية وطائفية وعشائرية ومنظورات بدائية ) ناهيكم عن أنظمة أوتوقراطية صادرت قدرة الانسان في التعبير والتغيير فأصبحت ” الهيمنة” التي كتب عنها غرامشي هيمنة ممزوجة بالتخلف والقمع، وكأن كتابات الكواكبي وقعت اليوم او تعريف ارسطو للسياسه بان يسوس الحكم الشعب قد عاد لا بمفهوم السياسه الجديد عن الصراعات والنزاعات والتسويات.

لكن أيضا، ثمة ثورات تحررية واجتماعية اجتاحت غير بلد راكمت ما راكمت وإرادة مواجهة وثقافة مقاومة تصدت لمؤامرات وقوى ظلامية سعت لتدمير الدولة الوطنية والمجتمع على حد سواء . وحسبنا التذكير بالثورة التحررية الجزائرية وصمود سوريا واليمن وإرادة القتال في العراق والانتصارات التاريخية للمقاومة اللبنانية وعلى رأسها حزب الله بقائده الكرزماتي الذي يتابع مهامه للنهاية ويجسد صيغة جديدة للقائد ( ان حفيدي معجب به اكثر مني )د. جورج حبش.

وهذا حال فلسطين. اذ اسقط الشعب مقولة الكبار يموتون والصغار ينسون ) ومقولة ( ارض بلا شعب لشعب بلا ارض ) و( تهشيم البيضة قبل ان تفقس ) في معركة الكرامة 1968 و( تحطيم البنية التحتية للمقاومة ) شارون في حصار بيروت 1982 والتخلص من النواة الصلبة للانتفاضة وتدمير العزيمة الفلسطينية ) في سنوات الجيشان الانتفاضي الذي استمر سنوات في أواخر الثمانينات و( تجريد غزة من سلاحها وانفاقها ) و(لا رواية لكم ولا أرشيف لكم ) احد ضباط التحقيق . قصارى القول صحيح ان المسيرة التحررية الفلسطينية لم تحرر وطنا لكنها زرعت كل بذور استمراريتها على درب تحرير الوطن ، والجديد النوعي الاستراتيجي ان الفلسطيني لم يعد وحيدا في خياره، فهو ركن في محور اكبر منه حيث يدور صراع ضاري في الإقليم وعلى الإقليم….

وبطبيعة الحال انحسرت ثقافة الهزيمة التي استشرت بعد هزيمة حزيران فولادة الفصائلية الفدائية حملت معها أحلام التحرير وتصحيح ( خطأ التاريخ) انجلز والانتقال من شعب لاجئ مجزأ الى شعب مقاوم له قيادة تقف في مقدمة الصفوف وتستشهد ، وحرب أكتوبر البطولية 1973 التي اخصاها القرار السياسي وكامب ديفيد 1978 جابهها الفلسطيني بصمود بيروت الأسطوري وان حالت عوامل عديدة دون الانتصار . وتهميش القضية الوطنية من معظم النظام الرسمي العربي رد عليه الفلسطيني بانتفاضة أكتوبر 1987كمبادرة شعبية هجومية اعادت تموضع القضية الوطنية في خندق الامل والتصدي والوجدان العربي….


” واوسلو” تم تجاوزه بقدر كبير في مواجهات ( انتفاضة ) 2000 اما في مواجهة ( سيف القدس ) أيار 2021 فالتفت ، كل فعاليات الشعب الفلسطيني في الداخل وداخل الداخل ودول الطوق والشتات حول خيار المقاومة فتوحدت الديموغرافيا والجغرافيا والفعل السياسي وغادر الوعي الجمعي النواح وحل الفخر فقط الذين لم يسهموا في بانوراما المسيرة التحررية والغاطسين في النرجسية يلوكون عبارات اليأس والإحباط وخيبة الامل وما تضخه الدعاية المعادية ( لا فرصة امامكم ) عبارة سمعتها مرات في زنازين التعذيب ، يغذي هذا الاحباط ( الاندحارات التي تشعرهم بعجز وصفاتهم السحرية التي لطالما اتكأوا عليها ) الاديبة اللامعة أحلام مستغانمي.


***
الثقافة الوطنية الجامعة كحامل للهوية الوطنية هي مرحلة ضرورية في تاريخ أي شعب بعد ان يتجاوز المرحلة القبائلية الترحالية والامارات والتجمعات المحلية ، فتنشأ شروط ( الحياة المشتركة والتضامن المشترك) الفرنسي رينان بما لا يتناقض مع رؤية لينين( ان الأمم نتاج لا يمكن تفاديه وشكل لا يمكن تفاديه للعهد البرجوازي من التطور الذي يشترط حياة اقتصادية مشتركة عميقة).


وعناصر الثقافة الفلسطينية كما سقنا أعلاه قديمة وتراكمية ومتداخلة مع بيئتها القومية فالتداخل السياسي الاقتصادي الاجتماعي توالد عنه تداخلا ثقافيا أيضا . وفي العقود الأخيرة اغتنت هذه العناصر ، اذ اتسعت تجليات الحياة المعاصرة فاين كان التعليم وأين اصبح بون شاسع وفي الجامعات الفلسطينيه هذا العام 250 الف طالب وطالبه، وفجوة كبيرة بين اللباس التقليدي المحدود والازياء العصرية المتنوعه، وهذا حال الاغنية والرقص والموسيقى ، وما كانت عليه ثقافة العمران ( الكهوف والبيوت الطينية والخيام و …) وما اصبحت عليه المدينة المعاصرة والاحياء الحديثة بشوارعها وانارتها ووو.. والقفزة في وسائل الاعلام انفجارية، وهناك فن الرواية والشعر الحديث والرسم والنحت والبحث والاصدارات المتنوعة اما المرأة فغدت اليوم 61% في الجامعات الفلسطينية ولها مشاركتها ي الهيئات التدريسية والسلطات المحلية والتنظيمات النقابية والاجتماعية والحركات السياسية بما لا يقل عن 18% في قوة العمل الى ان أصبحت المنظورات القومية واليسارية التي تقوم على المواطنة المتساوية وحق التفكير والاختيار دون تميز ديني او جنسوي هي القوة القائدة في (م.ت.ف) والقانون الأساسي الفلسطيني والكثير من التشريعات متناغمة مع ذلك.


اما خارطة فلسطين فهي معلقة على جدران صالونات الفلسطينيين كما على الصدور للزينة وهذا حال بوسترات الشهداء وقادة المقاومة واللوحات التراثية فالثقافة هنا جذرية . وباطمئنان يمكن الجزم ان المشهد الثقافي الفلسطيني قد تشعب وتطور وشمس ترجماته لا تغطى بغربال.


غير ان العقود الثلاثة الأخيرة شهدت أيضا تغيرات جوهرية في الخارطة السياسية الفلسطينية بما ترتبط بالسياسة من منظومات فكرية وثقافية ـ أهمها صعود حركات الإسلام المقاوم وبشكل اخص حماس والجهاد اللتان لا يقل وزنهما اليوم عن وزن فتح والشعبية كما جاء في استطلاع اذار 2021. صحيح ان السلطة في الضفة التي تقودها فتح اكبر اثرا على الشعب الفلسطيني من السلطه التي تقدها حماس في غزة وإمكانات الأولى تفوق إمكانات الثانية في الحقل الثقافي وأن الحضور الثقافي الحداثوي في النقابات المهنية والحركة النسوية وشتى التنظيمات الاجتماعية هو اعلى من الحضور الثقافي التقليدي ، غير أن المظهر الرئيس للبنية الاقتصادية– الاجتماعية – الثقافية يغلب عليه المظهر التقليدي هذا من جهة ومن جهة أخرى ان المجتمع الفلسطيني غير منقسم عموديا، اذ تتداخل الخطوط والتوجهات أيضا. فقوى المقاومة تشمل التقليدي والجبري والعلماني والحداثوي ، وقوى التسوية تشمل الحداثوي و العلماني والتقليدي والجبري. فلا خندق سياسي- ثقافي في مواجهة خندق سياسي ثقافي اخر . فالانقسام السياسي هو الأبرز اما الثقافي فيتوزع هنا وهناك. وحتى الانقسام السياسي تأتي مواقف ولحظات يتجسّر فيها كما وان الثقافة تشمل التنوع والتعددية وهي تنفر من الاقصائية والاحادية وإلغاء العقل وبتدرج تنتشر ثقافة القانون كناظم للمجتمع.


ان الشعب الفلسطيني يمر بمرحلة انتقالية ولم يحسم خياراته النهائية بعد ولفهم هذه المرحلة يتعين ( تحليل ملموس للواقع الملموس ) لينين ، وتفادي اسقاط نماذج نظرية واكاديمية عليها . ومن المؤكد ان رياح العصر التي تجتاح العالم لها اسقاطاتها مثلما ان للتاريخ اسقاطاته أيضا وفي المقدمة الثقافة ( فالثقافة العربية جوهر الثقافة الإسلامية ) د. حسن حنفي .. والنقيض المباشر الاستراتيجي للحق الفلسطيني والوجود الفلسطيني يسعى ( لكي تكون التسوية وطيدة يتعين على المثقفين العرب إعادة صياغة المفاهيم ) أي صهينتها. بيرس ولكن الفلسطيني يتشبث بثقافته فهي قلب هويته والحارس الأمين لحقوقه و( من المستحيل تدمير شعب استطاع ان ينجو بثقافته) سعد الله ونوس، ويبدو ان الثقافة الفلسطينية نجت رغم التشوش والثغرات ف ( القدس ليست للبيع ) و (فلسطين ليست للبيع ) و( الثوب الفلسطيني ليس للبيع ) والخيط والابره كذلك و( الفلافل والمقلوبة والمنسف ليس للبيع ، وسور عكا وسور القدس ليسا للبيع والبحر والنهر ليسا للبيع والاقصى والمهد ليسا للبيع، والكهوف والاثار التي عمرها أربعة وخمسة الاف عام ليست للبيع ، والمنازل والاطيان التي اقتلع منها أصحابها ليست للبيع ، والاغاني والاهازيج والينابيع والاعراس وشجر الزيتون والخروب والبلوط ليست للبيع، والشبابه والدبكه الشعبيه ليستا للبيع وضمير الشعب وذاكرته وحكاياه ليست للبيع وتاريخ الشعب ليس للبيع اما الشهيد والاسير فهما رمزان يسكنان في وجدان الشعب والحلم بالعوده لا ينسى مهما تقادم الزمن فهذا الجسر الذي اسماه علماء الجغرافيا القاره الصغيره فيربط افريقيا بأسيا وتعرض للغزو ات مئات ومئات السنين ، قد ذهبت الغزوات وبقي الجسر بترابه وشعبه.


والسياسة مدْ وجزر،وثمة ما يكفي من معطيات اليوم للقول ان زمن الجزر مضى وحل زمن المد، ( زمن الانتصارات) . فلا تخف اني أرى امة لو صبت جهنم على راسها واقفه مظفر النواب.