لماذا يجب الإصرار على حل الدولتين؟

منصور ابو كريم.jpg
حجم الخط

بقلم منصور أبو كريم

 

 

 مع تصّاعد حدّة الجدل في الحقل السياسي الفلسطيني في ظل فشل مسار التسوية القائم على المفاوضات التسوية السياسية عادت للواجهة وبقوة فكرة حل الدولة الواحدة أو الدولة "ثنائية القومية"، باعتبارها حل ممكن تطبيقه بعد أن وضعت إسرائيل عقبات كثيرة أمام تطبيق خيار حل الدولتين، إلا أن الحديث عن خيار الدولة الواحدة لا يشكل ظاهرة حديثة العهد بالفكر السياسي الفلسطيني، كون أن الفكرة طرحت بقوة قبل النكبة من خلال الحزب الشيوعي عام 1936، وطرحت أيضًا بالمجلس الوطني ومنظمة التحرير من خلال تبني فكرة الدولة الديمقراطية عام 1971، وهي الدولة التي كان يراد من خلالها تقديم مقاربة فلسطينية مقبولة للمجتمع الدولي، تحقق تفكيك الكيان الصهيوني، كهدف رفعته الثورة الفلسطينية وفصائل الكفاح المسلح، وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يتعايش فيها السلمين والمسيحيين واليهود على أساس حقوق متساوية.

يمثل انغلاق أفق التسوية السياسية مناسبة هامة لإعادة طرح فكرة الدولة الواحدة أو ثنائية القومية من جديد، وهي انعكاس لوصول عملية السلام لطريق مسدود بعد أن صعد اليمين الديني لسدة الحكم في إسرائيل عقب جنوح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف، والذي أدى لهيمنة كتلة اليمين القومي والديني على الحياة السياسية في إسرائيل خلال العقد الماضي.

الدعوة لتبني خيارات أخرى، كحل الدولة الواحدة أو الدولة ثنائية القومية، ليس سببه فشل حل الدولتين، كما يقول كثير من منظري هذا التيار؛ بل لأن أي حل للقضية الفلسطينية يجب أن ينطلق من وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده ووحدة أرضه، ومن فهم صحيح لطبيعة المشروع الصهيوني الاستيطاني، ودولته العنصرية، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات التي حصلت خلال 72 عاما من عمر إسرائيل والنكبة، لا سيما منها، الواقع الديمغرافي والاستيطاني ودرجة التداخل بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن عدد الفلسطينيين قد تجاوز 13 مليونا. يعيش نصفهم (6.5 ملايين) في فلسطين التاريخية والنصف الآخر في الشتات. وبحسب الإحصاءات الإسرائيلية، فقد بلغ عدد سكان إسرائيل حوالي 9 ملايين، منهم 6.8 ملايين (74%) يهود، وحوالي 2 مليون (عرب فلسطينيين)، إزاء هذا التحدي ستجد إسرائيل نفسها مضطرة للاختيار بين الانسحاب من الأراضي المحتلة، للحفاظ على طابعها كدولة الأكثرية اليهودية (في حدود إسرائيل)، أو البقاء في هذه الاراضي والتخلي عن طابعها، مقرونا بالضرورة بالتخلي نظامها الديمقراطي، والتحول إلى "دولة أبارتايد" في كل فلسطين التاريخية، كونها لابد ستقاوم (ولو إلى حين)، واقع كونها باتت دولة "ثنائية القومية". ومن المهم وضع إسرائيل أمام خيارات وتحديات حقيقية، سواء أمام نفسها أو أمام العالم، طالما أنها تمانع قيام دولة فلسطينية على 22 % من الأرض الفلسطينية.
التراجع المتواصل في فرص تجسيد الدولة المستقلة وفق برنامج منظمة التحرير، الذي كان - ولا يزال - تحقيقه مستحيلًا عبر إطار المفاوضات، لا يعني أن الخيارات البديلة باتت في متناول اليد، وبخاصة الدولة الواحدة، لأن هناك دولة واحدة قائمة بالفعل من النهر إلى البحر، لكنها دولة يهودية استعمارية عنصرية، بل يعني أن الصراع المتواصل الذي يفرضه بقاء المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري مفتوحًا على سيناريوهات مختلفة.
دائمًا ما تنجح إسرائيل في دفعنا لتغير أهدافنا وأولوياتنا! فرغم صعوبة تنفيذ حل الدولتين في الوقت الحالي إلا أن خيار حل الدولة الواحدة المطروح من قبل البعض يمثل أكثر صعوبة في تحقيقه كونه يتنافى مع الهوية الوطنية، فهو يمثل نهاية لفكرة الكينونة الوطنية الفلسطينية ويدفع الشعب الفلسطيني بالاندماج في الهوية الإسرائيلية كمواطنين من الدرجة الثانية.

الغريب في الأمر إن إسرائيل دائمًا ما تنجح في دفع الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والفكرية إلى البحث عن مخرج جديد للمأزق التي تقع فيه الحركة الوطنية الفلسطينية، لأسباب مختلفة، فقد تدحرجت أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية تدحرجًا متقلقلًا خلال ثورته المعاصرة؛ فمن الدولة الديمقراطية عام 1969 إلى البرنامج المرحلي في سنة 1974، إلى برنامج الاستقلال في سنة 1988، وإلى برنامج أوسلو في سنة 1993، فإلى خريطة الطريق في سنة 2002. انشغال الفلسطينيين في البحث عن حلول يترافق مع انشغال إسرائيل بإدارة الصراع عبر سياسة الاستيطان وتهويد القدس ومصادرة الأراضي ومشروع الضم تجاه الضفة الغربية والفصل تجاه قطاع غزة. نحن منشغلون في حلّ الصراع، وشكل الحل المقبول، وكأننا في مرحلة الحل!
المخاطر التي يجب على الفلسطينيين في حالة قبولهم بفكرة الدولة الواحدة أو الدولة ثنائية القومية معرفتها، أن تبني هذا الهدف يعني التخلي عن عضوية الجامعة العربية والأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية، والتخلي أيضًا عن عضوية العديد من المنظمات والمعاهدات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين عقب الحصول على مكانة دولة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012، كما سوف يتعين على الفلسطينيين التعايش مع واقع الاستيطان في الضفة الغربية بعد أن تصبح فلسطين وحدة جغرافية واحدة. فمن الصعوبة النضال على جبهتين مختلفتين، جبهة النضال الحقوقي والمدني في إطار الدولة الواحدة لمواجهة إجراءات الفصل العنصري، وجبهة النضال الوطني لتجسيد الهوية الوطنية الفلسطينية في المحافل الدولية والعربية.
طرح الفكرة اليوم وصيرورتها موضوعًا للحديث والجدل عند السياسيين والمثقفين الفلسطينيين يعني إسقاط هدف الدولة المستقلة في الضفة وغزة أو تجاوز المشروع الوطني الفلسطيني الذي وُضِعت أسسه في دورة المجلس الوطني في الجزائر 1988، فهل النخب السياسية والمجتمع بكامله مهيئ لخوض معركة الدولة الواحدة الآن، والتخلي عن الهوية الوطنية المستقلة لحساب هوية جزئية في مجتمع الاحتلال الإسرائيلي!

من الصعب التنصل من حل الدولتين وطرح شعار دولة واحدة، فهو يعد بمثابة قفزة في الفراغ، وقد تتيح الفرصة أمام إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية، كما أن القانون الدولي لا يكفل قضية الدولة الواحدة، فعلى الرغم أن التلويح بخيار الدولة الواحدة بات يطرح من قبل بعض الفلسطينيين لدفع إسرائيل للتمسك بحل الدولتين، على اعتبار بقاء إسرائيل كدولة يهودية ليس مصلحة إسرائيلية فحسب بل مصلحة إمبريالية أمريكية أيضًا، لكنه يحمل الكثير من المخاطر والتحديات أهمها قد يمثل أداة لإسرائيل للتهرب من الالتزام بالقانون الدولي والاتفاقيات الموقعة، وكما أنه سوف يبدد الاعتراف الدولي والعربي بحل الدولتين، كون أن المعركة ليست بين دولة واحدة أو دولتين، وإنما هي معركة هوية وطنية قد تذوب في الهوية" الإسرائيلية".

بات من المؤكد أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحّول من صراع على الأرض إلى صراع هوية، خاصة بعد ما استطاعت إسرائيل حصرنا في بقع جغرافية صغيرة ومتفرقة، فرفض إسرائيل خيار حل الدولتين والعمل على نسفه عبر الاستيطان والجدار بالضفة الغربية والقدس يؤكد إن دولة الاحتلال لا تريد أي كيانية فلسطينية كتعبير عن الهوية الوطنية الفلسطينية النقيض الفعلي للهوية الإسرائيلية إن كان حقًا هناك هوية للمحتل، تحول الصراع من صراع على الأرض لصراع هوية وجد صداه في قانون القومية الإسرائيلي العنصري الذي يمنح "الشعب اليهودي" فقط ما بين البحر والنهر حق تقرير المصير التاريخي، وبالتالي التنظير لخيار الدولة الواحدة يصب في مصلحة هذا الاتجاه، لأننا لو قبلنا بخيار الدولة الواحدة بدون ضمانات لحقوق سياسية سوف يتحول الشعب الفلسطيني لمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة.

القول إن الاستيطان نسف خيار حل الدولتين ما يتطلب البحث عن خيارات أخرى، لا يتناسب مع التجارب السابقة، فانسحاب إسرائيل من قطاع غزة وتفكيك مستوطناتها يمثل دليل على إمكانية تفكيك الاستيطان في الضفة الغربية، فرغم محاولات إسرائيل تثبيت حقائق جديدة على الأرض من خلال الاستيطان، إلا أن الاستيطان نفسه لا يمثل نهاية الطريق، فانسحاب إسرائيل من سيناء وقطاع غزة، وغور الأردن وتفكيك الاستيطان في هذه المناطق يجعل لإشكالية الاستيطان مخرج إذا توفرت الإرادة الفلسطينية المقاومة والإرادة الدولية لفرض حل الدولتين على أرض الواقع.
خلاصة القول: الادعاء إن خيار حل الدولتين قد انتهى بسبب سلوك الاحتلال الإسرائيلي في تثبيت حقائق جديدة على الأرض عبر الاستيطان قراءة صحيحة لكنها لا ترتكز على قراءة التجارب السابقة في التعامل مع الاستيطان في قطاع غزة وشبة جزيرة سيناء، وغور الأردن! فأين هي مستوطنة ياميت؟ وأين هي نتساريم؟ وغوش قاطيف؟ وكفار داروم وغيرها من المستوطنات التي قامت إسرائيل بتفكيكها في إطار جهوية التسوية أو الانسحاب أحادي الجانب. أرئيل شارون قبل انسحابه من غزة وتفكيك مستوطناتها كان يقول: "نتساريم أهم من الناحية الاستراتيجية من تل أبيب".
التمسك بخيار حل الدولتين رغم صعوبة تطبيقه في الوقت الحالي ليس نابع فقط من كونه يمثل الحد الأدنى من الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وليس لانه يحتمي بالشرعية الدولية ويجمع عليه العالم أجمع؛ بل لأننا لا يجب أن ننساق إلى الرغبة الإسرائيلية في دفعنا في كل مرة للبحث عن حلول أخرى والبدء من جديد.