ليس جديداً القول: إن خطاب الكراهية يعدّ آفة داخلية خطيرة يجب العمل على محاصرته بشكل ممنهج وصولاً إلى اجتثاثه، لما يترتب عليه من مخاطر تطال السلم الأهلي والمجتمعي وتتهدد النسيج الموحد للمجتمع.
وإدراكاً لهذه المخاطر وغيرها الكثير الذي يترتب على مثل هذا الخطاب من تداعيات سلبية، فقد حرصت البلدان والحكومات والمؤسسات الأممية على العمل على إنتاج منظومة ثقافية وقانونية تعمل على مناهضة هذا الخطاب، عبر إجراءات قانونية من جهة كما هو حاصل في قانون الجرائم الإلكترونية بفلسطين ومطالبته مساءلة وتجريم كل من يُحَرّض على الكراهية أو يثيرها. وعبر منهج ثقافي إنساني يتمثل في اعتماد مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
والتعريف البسيط لمصطلح «خطاب الكراهية» هو أيّ تعبير عن الكراهية التمييزية تجاه شخص أو أشخاص على أساس جانب معيّن من هويتهم. ويصبح خطاب الكراهية خطراً على المجتمع عندما يستشري وينتشر دونما مواجهة جادة؛ لأنه يولد ويكرس نزعات خطرة تتمثل في التعصب والعنف والتحريض وسواه من عناصر هدامة.
ومعلوم للجميع أن خطاب الكراهية له أسباب فهو لم يأتِ من فراغ، وتجد تفاسيره في الواقع المعاش من خلال الفجوة الصلبة المتشكلة بالتراكم وعلى فترات زمنية ممتدة بين الطبقة السياسية والمجتمع، ويشكل غياب الشفافية والمناخات الديمقراطية وافتقاد أطر للحوار الدائم ما بين مختلف مكونات المجتمع التربة الخصبة لنمو مثل هذا الخطاب.
في فلسطين لا يمكن الادعاء أننا بعيدون عن هذا الخطاب، بل على العكس من ذلك فقد بتنا نقع في دائرة هذا الخطاب وتأثيراته الخطيرة، بل أصبح انتشاره مقلقاً ومهدداً لانفجار صراعات مركبة ناشئة، ليشكل أحد عوامل الفرقة وتغييب الأمن والسلم الداخليين. وليس أدل على انتشاره السريع أكثر من مظاهر الفلتان والفوضى والعداء البادية للعيان بأشكالها المخيفة.
وخطاب الكراهية لم يغب يوماً عن الثقافة السائدة في المجتمع الفلسطيني بسبب ثقافة الإقصاء وعدم قبول الآخر، ولكنه لم يكن في يوم من الأيام مقلقاً إلى حد كبير مثلما هو اليوم، وأجزم بالقول: إن الانقسام السياسي والجغرافي الذي حصل عام 2006 في قطاع غزة وما رافقه من تداعيات كان النقطة الفارقة في هذا الخطاب، حيث بدأت الأطراف المتصارعة بشحن المجتمع بشحنات كبيرة من التحريض والتعصب والاتهام تجلَّت برد الفعل وأشكال من الانتقام والتربص، وإلحاق الأذى الجماعي بالعائلات وعلى أساس سياسي وفئوي وأنتجت تمزقاً وتفكيكاً للنسيج الاجتماعي، عدا تأثيراته الخارجية على مستوى الرأي العام، حيث بهت هذا الخطاب القضية الوطنية الفلسطينية، وألحق الأذى بالنضال الوطني بصفته نضالاً تحررياً وطنياً مناهضاً لثقافة الكراهية والعنف، وبات الاهتمام منصبّاً أكثر على الانقسام وأطراف الانقسام دون التطرق للموضوع الأساس ألا وهو الاحتلال وسياساته العنصرية والتوسعية.
ودون شك أن استطالة أمد الانقسام وتعمقه، وفشل جولات الحوار المكوكية للمصالحة بين الأطراف المتخاصمة والخروج من دائرة الانقسام المهلكة، فاقم من الوضع الداخلي وكرّس أكثر خطاب كراهية بات منتشراً في مختلف مفردات الإعلام بكل تفرعاته، وهو ما ولّد مناخات مناسبة لنمو الضغائن والأحقاد، مع استمرار تراشق الاتهامات من العيار الثقيل وأثرها على حقن المجتمع وتجييشه ضد بعضه البعض كنتيجة حتمية لإخفاق المصالحة.
ومما ساهم أيضاً في ارتفاع مشاعر الكراهية حالة الاحتقان الداخلي، وغياب المسار الديمقراطي بوضعه الانسيابي الطبيعي والنظامي، وتالياً تراكم الخطايا والأخطاء المرتكبة من الطبقة السياسية المتنفذة على جانبَي الوطن، وانتشار مظاهر التمييز والتفرقة والفساد والمحسوبيات، وقمع الحريات العامة ومصادرة حرية الرأي والتعبير، والتلاعب بصحة المواطنين وجيوبهم ومعيشتهم، وعدم حمايتهم من الأخطار المحدقة بهم من الاحتلال خاصة، كل ذلك فاقم من أزمة الثقة ومشاعر السخط بين الناس.
ولا يسعني في سياق الحديث عن خطاب الكراهية التغافل ولو للحظة عمّا طال المرأة الفلسطينية من أذى وتهجمات وتحريض سافر على مطالبها المحقة في المساواة، حيث تمادى خطاب الكراهية ووصل إلى حد التحريض المباشر على المنظمات والمؤسسات النسوية، وعلى كل ما يمتّ بصلة لأي منظور تحرري أو مدني، واتخذ هذا الخطاب منحى خطيراً من حيث التضليل والتحريض والتشويه، وصولاً إلى حد شيطنة الخطاب النسوي القائم على منظومة ومبادئ حقوق الإنسان، حيث بات الحديث عن اتفاقية سيداو بنظر هؤلاء يساوي المساس بالمقدس بشكل مباشر والتشكيك بقيم المجتمع ومعتقداته الدينية، وهذا باعتقادي يشكل أعلى درجات الكراهية والتنمر ورفض الآخر.
ولا يبدو خافياً أن ما زاد من هجوم المجموعات التي تنتج خطاب الكراهية تجاه المرأة وحقوقها ومطالبها المشروعة في المشاركة الكاملة في الحياة العامة والسياسية، والتمادي في هذا الخطاب إلى حدود خطرة من قبل الاتجاهات التقليدية والمحافظة، هو الصمت المطبق من قبل الحكومة وأدواتها التعبيرية من إعلام وسواه، حيث فهمت الأطراف والقوى الاجتماعية التي تختبئ وراء مسمّى العشائر أن هذا الصمت هو تواطؤ وقبول بخطابها المعادي، الأمر الذي يتطلب من الحكومة أن تعيد النظر في مواقفها وخطابها، وأن تنسجم مع المعايير الدولية والاتفاقيات الدولية التي وقّعتها أو صادقت عليها، والتي تحظر كل أشكال التحريض سواء المعلنة أو التي تتخذ من حرية الرأي والتعبير منصة انطلاق ومسمّى لمهاجمة المرأة ومطالبها.
وإذا ما كان الشيء بالشيء يذكر، فان انتشار خطاب الكراهية على المستوى العربي والإقليمي؛ نتيجة الحالة العربية الراهنة وما تشهده من صراعات داخلية محتدمة وحروب أهلية، ساهم دون شك في تصاعد خطاب الكراهية؛ لأنه وجد بيئة مناسبة ومساندة من قبل دول الجوار التي تؤثر فينا دون شك. وهذا بالمحصلة ساهم في تفاقم الوضع المحلي، وانتشار خطاب الكراهية واجتياحه العالم كالنار في الهشيم، وبالتالي يمكن اليوم أن نتلمس إلى أيّ هاوية ومنحدر نهوي إليه.
حسناً فعل مركز مدى للإعلام في تنظيمه حملة إعلامية لمواجهة ومحاربة خطاب الكراهية، فالمؤشرات، خاصة في وسائل الإعلام الاجتماعي، باعثة على القلق والخوف. لكن الحملة لا تكفي لمعالجة الآفة الصعبة، كون الحملات عادة تلتزم بوقت محدد قد لا تصل رسائلها فيه إلى الجميع، وقد تنجح في بث الوعي الجمعي وتضيء على المخاطر، بينما الواقع يحتاج إلى أكثر من حملة لمعالجة هذه الظاهرة المثيرة للقلق من خلال منهج متعدد الأبعاد ومسارات متوازية تنطلق من إستراتيجية موحدة هدفها وضع اليد على أسباب ومغذيات هذا الخطاب، وإدارة حوار يفضي بالمحصلة إلى الخلاص من ثقافة الكراهية وتعميم ثقافة التسامح والقبول بالآخر المختلف.
برشلونة يواجه خطر الغياب عن النسخة الجديدة لمونديال الأندية
31 ديسمبر 2023