حول مبادرة الإنقاذ الوطني... يمكن مديحها

201958134341122636929198211223735-1565767256.jpg
حجم الخط

بقلم غسان زقطان

قدم الدكتور ناصر القدوة، قبل أيام في مؤتمر صحافي عقد بتقنية الزوم، مبادرة حملت عنوان "وثيقة الإنقاذ الوطني - هيئة انتقالية لإنجاز التغيير وإعادة البناء"، المبادرة محصلة جهد عدد من المثقفين والسياسيين والمستقلين والناشطين في المجتمع الأهلي الفلسطيني، في مختلف مناطق وجود الفلسطينيين، وتأتي بعد أكثر من عام على إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية وتمرير اجتماع المجلس المركزي، رغم المقاطعة الواسعة والإشكاليات القانونية التي رافقت انعقاده. 

 

بلغة رصينة وواضحة، تقدم المبادرة برنامجاً للخروج من "الحالة الفلسطينية القائمة"، يستعرض النص في المقدمة قراءة للواقع الفلسطيني المتهالك، ويقترح حلولاً بمرجعيات وطنية وآليات ديموقراطية قائمة في تفاصيلها على استعادة منظمة التحرير الفلسطينية من موتها السريري كممثل شرعي وحيد، عبر إعادة الاعتبار للكفاءة والحقوق وعدالة التمثيل وعلى قاعدة المواطنة، إذا اعتبرنا أن المنظمة هي وطن الفلسطينيين السياسي الذي يوحد شتاتهم.

 

ويخطط الموقعون، كما جاء في المؤتمر، لعقد مؤتمر شعبي مفتوح لكل القوى والأفراد الراغبين في التغيير بعد ستة أشهر، تحت قيادة هيئة انتقالية يجري تشكيلها من خلال حوار وطني بمشاركة تمثيلية واسعة، تضم مختلف فئات وشرائح الشعب الفلسطيني، مهمة المؤتمر ستكون تطوير المبادرة والعمل على إنهاء الانقسام على أسس وطنية وديموقراطية، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة على أساس الانتخابات والتوافق الوطني، والعمل على التخلص من التزامات أوسلو الذي قتلته الحكومات الإسرائيلية وعلق الفلسطينيون في رماله المتحركة.

 

هذه تقريباً محاولة لتلخيص المبادرة بتصرف وبدون الخوض في تفاصيلها، ومحاولة لرصد ردود الفعل الأولى على الأفكار التي تضمنتها، إذ يستطيع المتأمل في هذه الردود ليس قراءة المبادرة ولكن تبين الواقع الذي تتوجه إليه، وتعكس في الوقت نفسه عمق المأزق الذي تفاقم وشكل بنية تحتية متشعبة لحماية حالة التفكك وتطوير الانقسام الذي تجاوز الجغرافيا الفلسطينية المقسمة ليصل إلى الوعي نفسه.

 

لو استثنينا الذباب الإلكتروني الذي باشر هجومه على المبادرة والمشاركين فيها بمجرد الإعلان عنها وقبل المؤتمر الصحافي، مع تركيز واضح على ناصر القدوة، رغم أن الرجل  لا يملك ميليشيا ولا يحمل ملفات فساد، ويتمتع بسجل مهني نظيف وضعه ضمن شريحة دبلوماسية دولية محترفة.

 

يطلق الفلسطينيون على هؤلاء اسم "السحيجة" وترجمتها المصفقون، وهي مرتبة أقل من "الشبيحة" التي أطلقها السوريون على أعوان النظام قبل أن يتحولوا إلى نظام قائم بذاته، وخصهم الراحل الشاعر ممدوح عدوان مبكراً بأكثر من مقالة توضيحية تفسر منابتهم وأصولهم وتشكيلاتهم ومهماتهم ووعيهم.

 

"السحيجة" هم أشخاص يهللون لكل شيء يصدر عن السلطة وممثليها، ويشتمون كل شيء يصدر عمن يعتقدون أنهم خصومها، وهذا يشمل شيطنة الخصوم وتعويم أي أفكار لا تنسجم مع السلوك الرسمي والقرارات الصادرة عن المركز، ومديح ضرب المواطنين وإهانتهم واعتقالهم والبطش بأي معارضة أو احتجاج. 

 فئة "الشبيحة"، يمثلون الذراع الميدانية الأكثر مهنية ويمكن إطلاقهم نحو التظاهرات والاحتجاجات والمسيرات تحت ذرائع كثيرة، دينية ووطنية وسياسية وحزبية، ومهمتهم هي إثارة الخوف في الشارع وتربية المعارضين بوسائل عنيفة، يتم طي ملفات هذه الاعتداءات عادة وتعويمها، هذه هي تقريباً الهيكلية البسيطة بتراتبيتها المكشوفة لاصطفاف أدوات القمع، وهي هيكلية تزداد تعقيداً كلما صعدنا سلّم الأدوات.

 

الأمر هو محصلة لفلسفة قائمة على فكرة إهانة الناس وإسكاتهم أقل تكلفة من الحوار وإيجاد الحلول.

المهم لو استثنينا "السحيجة" فسنجد أكثر من اتجاه في التعامل مع "المبادرة"، اتجاه يأخذ على المبادرة النبرة التصالحية مع السلطة، ويقترح ببساطة أن تطرح المبادرة نفسها بوضوح بديلاً من السلطة، وليست جهة تفاوضية تقترح في طياتها شراكة التغيير، على قاعدة أنها، السلطة، استنفدت فرصها وتحولت إلى عبء على المشروع الوطني.

 

وهناك اتجاه يرى أن لا فائدة من كل هذا الجدل، وأن المبادرة نفسها جزء من الصراع على السلطة، والمطلوب ثورة شعبية تطيح كل الرموز على طريقة شعار اللبنانيين غير المتحقق "كلن يعني كلن".

 

الاتجاه الثالث وهو الغالب ويشكل التيار العريض، توزع بين داعم ومتحمّس ومشارك.

وفي الجانب الآخر، حيث تعيش السلطة في المقاطعة و"حماس" في غزة، لا يبدو أن الأمر يثير القلق، "حماس" تواصل فرض الضرائب على كل شيء وتعزز قبضتها على مصائر الناس في حصار مضاعف، حيث تشاركهم الآن، عبر آخر قائمة للضرائب، في خبزهم الشحيح وقماشة ملابسهم البسيطة.

 

فيما تبدو السلطة في رام الله خارج الحوار تماماً، نوع من السعادة التامة يغمرها ويخفق في جنباتها، سعادة مصدرها أنها السلطة، هذا ما تذكرها به المرآة، وهي، النظر في المرآة، الطريقة الوحيدة التي تواجه فيها الانهيار الذي يحدث في الخارج ويصل غباره إلى الغرف. هذا ما فعلته مع إضراب المعلمين وإضراب سائقي التاكسي والأطباء، وما تفعله الآن مع إضراب المحامين ومسيراتهم الحاشدة التي تحولت إلى ما يشبه العصيان المدني في المحاكم وأمام مؤسسات القضاء ورئاسة الوزراء والشوارع، احتجاجاً على إصدار "القوانين بقرار" التي توصل إليها مستشارو الرئاسة في غياب المجلس التشريعي وفي بلد لم يشهد انتخابات نيابية منذ 2005، الإضراب يتصاعد ويترك أثره على شؤون الناس ويتلقى المزيد من التضامن والدعم، بينما تنظر السلطة في المرآة فيتجدد رضاها عن نفسها، ويصبح كل شيء خارج جدران المقاطعة تفصيلاً خارج المتن، بما فيها المبادرة المطروحة.

 

لهذا لا يبدو أنها ستشارك في النظر للمبادرة أو الحوار حولها، أولاً لأن المبادرة تنطلق من واقع أن هناك انهياراً وغياب الإرادة السياسية وتفكك المشروع الوطني، وفساداً يشمل مختلف مناحي الحياة وانفلاتاً أمنياً وسخطاً شعبياً، وهي أمور لا تراها السلطة ولن تتوقف لنقاشها أو التفاوض بشأنها، وهي في نظرها، المبادرة وغيرها من الانتقادات والاحتجاجات على أنواعها، ظواهر كيدية وخروج عن "الإجماع الوطني".

 

ثانياً، مرجعية المبادرة والآليات المقترحة للحلول هي الانتخابات والمحاسبة، فك القطع الفاسدة وتركيب قطع بديلة، واستعادة منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين عبر تجديد هياكلها وأيضاً إعادة انتخاب هيئاتها. ترى السلطة أنها استبقت المبادرة، فقد أنجزت هي هذه المهمة وحدها وعلى طريقتها، حيث جرى تشكيل المجلس المركزي وتوزيع مقاعده من قبل "لجنة مختصة"، كما منح صلاحيات المجلس الوطني كاملة، وتم تبديل بعض القطع، إذ جرى اختيار رئيس جديد للمجلس الوطني ونائبين، كما تم اختيار أعضاء اللجنة التنفيذية ووزعت عليهم حقائب ويمكن ملاحظة رضاهم وسعادتهم بحقائبهم.

 

يعترف أصحاب المبادرة بصعوبة العمل والعوائق أمام تمريرها وتحويلها إلى أداة ضغط شعبية، ولكنه، التغيير، ممكن في ظل العوائق وبسببها أيضاً.

 يبقى أن طرح المبادرة وإعادة الزخم للمطالبة بالتغيير في هذا التوقيت يشكل ضرورة أمام استرخاء الفساد والتعالي على حاجات الناس، المبادرة ضرورية لملء الفراغ وإعادة تحريك المياه والتذكير بفداحة الأزمة، وستسمح بنشوء حوار قابل للاتساع والتعمق حول الحلول وقراءة الواقع على ضوء الرغبة في التغيير، وهي أمور ضرورية لكسر الجمود ومحاصرة سياسة إدارة الانقسام بين سلطتي رام الله وسلطة غزة، وتوحيد المعارضة على خطوط عامة في جبهة وطنية عريضة تشمل "فتح" نفسها، أو تيارات عريضة منها، على قاعدة التعددية والحوار وتحديد المركزي من الأهداف، والتماس مع الشارع وحركته المتصاعدة والضغط شعبياً على السلطتين.

 

نظرياً يمكن مديح الفكرة ودعمها والمشاركة في مسيرتها، ولكنها بحاجة إلى ذراعين لتتمكن من بناء الجسور وقدمين لتتمكن من السير، والكثير من الصبر.