فلسطين قاهرة الاحتلال

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

بعد مرور نحو شهر على تولي الوسطي يائير لابيد منصب رئاسة الحكومة الإسرائيلية من شريكه وسلفه المعتزل عن السياسة، بعد خروجه من المنصب، اليميني المتطرف نفتالي بينت، لا يمكن القول ولا بأي حال من الأحوال، بأن حكومة لابيد أقل تطرفاً أو عنفاً في علاقتها مع الجار الفلسطيني بكل مكوناته، أي السلطة والفصائل والمواطنين، وكما لم تكن حكومة بينيت أحسن حالاً من حكومة بنيامين نتنياهو، فإن حكومة لابيد ليست أفضل حالاً من حكومة بينت، وإن كانت تركيبة الحكومة بقيت كما هي باستثناء تبديل شخص رئيسها.
ان التغول الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، في عهد لابيد مقارنة بسابقه بينت، يظهر في مستويين، الأول، هو شن الثنائي لابيد/غانتس حرباً خاطفة على قطاع غزة، الأمر الذي لم يحدث في عهد بينيت الذي استمر مدة عام، لم تندلع خلالها الحرب بين إسرائيل وغزة، والثاني هو أن بينيت وإن كان أطلق الحرب الشعواء الميدانية المتواصلة على مدن وقرى ومخيمات الضفة والقدس، إلا أنه اعتمد على قطعان المستوطنين، ربما ليقول بأن الحكومة أقل تطرفاً من المستوطنين، وأن ما يجري من عدوان شرس ليس ناجماً عن قرارات او حتى سياسة حكومية، أما لابيد فإنه ومنذ أن تولى الحكم وجنوده يقومون باقتحام المدن والمخيمات الفلسطينية بحجة البحث عن المطلوبين، فيمارسون القتل الميداني بحق كل مَن يطاله رصاصهم من شبان ونساء وشيوخ وأطفال.
وفي البحث عن أسباب زيادة جرعة التطرف والعنف الرسمي الإسرائيلي، فإنه يمكننا التذكير بأن حكومات ما كان يسمى باليسار، أي حكومات حزب العمل كانت دائماً أقدر من حكومات اليمين على شن الحروب، لأنها تتمتع حينها بدعم المعارضة اليمينية، فيما كان اليمين، ممثلا بالليكود هو الأقدر على عقد اتفاقيات السلام، وبالطبع لم تعد هذه المعادلة قائمة، نظراً لأنها في ما يخص الجانب الفلسطيني تنقلب لضدها، فاليسار هو الذي عقد اتفاقيات أوسلو مع (م ت ف)، ثم ذهب الى حال سبيله، هذا بالطبع لو اعتبرنا لابيد وحزبه يساراً، وهما في أحسن أحوالهما يُعدان وسطيين، لكن الأمر يعود الى توغل التطرف اليميني داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي لا ينكر على الشعب الفلسطيني حقه في التحرر والعيش في دولة مستقلة فقط، بل ينكر عليه الحق في الحياة، وهكذا فإن القادة الإسرائيليين صاروا بجلهم صقريين، خاصة حين يكونون امام استحقاق انتخابي.
وكما قلنا في مقالنا السابق في «الأيام» فإن أحد دوافع الحرب على غزة التي جرت الأسبوع الماضي كان استحقاق الانتخابات، والدليل على ذلك ليس فقط ان بنيامين نتنياهو بادر على الفور الى تأييد الحكومة في قرار الحرب، بل إن استطلاعات الرأي التي جرت بعدها، أي قبل أيام قليلة أظهرت تقدم حزب لابيد «ييش عتيد»، وتراجع ائتلاف نتنياهو عن الفوز بالأغلبية البرلمانية، وفي حقيقة الأمر فإن لابيد/غانتس، هما الثنائي الذي رفع منذ سنوات شعار إسقاط نتنياهو، وهما بعد أن نجحا نسبياً في تشكيل الحكومة البديلة يرغبان في البقاء، ويمنيان النفس ليس فقط في الخروج بحالة التعادل في الانتخابات والبقاء ضمن حكومة تصريف اعمال، بل في التقدم خطوة أخرى بالحصول على الأغلبية البسيطة، وربما بدون حزب يمينا، الذي قد لا يتجاوز نسبة الحسم، أي بائتلاف أقل يمينية، بعد ان انضم حزب «أمل جديد» بزعامة جدعون ساعر لحزب أزرق أبيض بقيادة بيني غانتس، حيث لن يبقى معهما من أحزاب اليمين سوى حزب أفيغدور ليبرمان «إسرائيل بيتنا» .
كذلك يمكن ملاحظة أن زيادة وتيرة العنف والتطرف الرسمي/ الحكومي الإسرائيلي سواء عبر شن الحرب على غزة، أو اقتحام الجيش لمدن جنين ونابلس بشكل متواصل، وقتل المواطنين، أي بارتكاب حروب موضعية، قد جاء بعد زيارة جوزيف بايدن الرئيس الأميركي لكل من إسرائيل وبيت لحم وجدة، بعد أن شد على يد إسرائيل بتوقيع التعهد بمنع ايران بكل الوسائل والطرق من امتلاك السلاح النووي، وحين اظهر بوضوح نية اميركا الخروج من تفاصيل المنطقة، وبالتالي على إسرائيل ان تعتمد على نفسها بشكل أكبر، لذا فقد صارت إسرائيل تسعى لفرض حقائق الأمر الواقع، الذي يمنع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بين النهر والبحر، وذلك في مواجهة استحقاق لا بد ان يأتي وقته طال الزمان أم قصر، وهو استحقاق إنهاء الاحتلال.
وما شجع إسرائيل على ذلك، هو ما قاله بايدن بصراحة حين التقى الرئيس محمود عباس، حيث اتبع جملته التي يتشدق بها ليل نهار، ولا يقصد بها سوى تخدير الجانب الفلسطيني، نقصد حل الدولتين، بأن حل الدولتين بعيد المنال، وأن مطالب الرئيس الفلسطيني بحاجة الى المسيح لتحقيقها، وقد اتضحت حقيقة موقف واشنطن بصمتها خلال أيام الحرب الثلاثة على غزة، وإزاء الاقتحامات العسكرية المتواصلة للمدن الفلسطينية في الضفة، هذا لأن قرار الحرب الإسرائيلية جاء بمبادرة إسرائيلية ولم يأتِ رداً على إطلاق صواريخ من غزة، لتقول واشنطن بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها!
كذلك لا بد من الإشارة الى أن التطبيع الذي أخذ جرعة كبيرة في ايلول من العام 2020، قد شجع كثيراً إسرائيل على التوغل في تطرفها وعنفها ضد الشعب الفلسطيني، والعمل على تقويض حل الدولتين، فالحرب على غزة لم تقابل حتى بالاستنكار العربي الرسمي الجماعي، بل إن دولتَي التطبيع، أي كلاً من البحرين والإمارات، قد سارعتا الى الطلب من مواطنيهما في إسرائيل باتخاذ الحيطة والحذر، تماماً كما تفعل الدول المحايدة عادة، حين تتعرض رعاياها في اي دولة لحرب او كارثة.
مع كل هذا فإن الشعب الفلسطيني يُبقي على جذوة مقاومة الاحتلال بشكل جماعي، شعبي ورسمي، وتبقى فلسطين آخر الدول المحتلة من قبل الاستعمار القديم، وتبقى إسرائيل بذلك تذكر الدنيا كلها بأصلها كدولة نشأت بقرار استعماري، وتعززت في ظل الحرب الباردة، فيما دولة فلسطين كانت ضحية الاستعمار أولاً، ثم منعت الحرب الباردة قيامها على جزء من ترابها التاريخي، وكان وهماً بالطبع أن يراهن البعض على ان ما سُمي بالنظام العالمي الجديد، الذي قادته الولايات المتحدة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، يمكنه ان يساعد على قيامها الى جانب إسرائيل، رغم ان رؤساء الولايات المتحدة انفسهم هم من أطلقوا شعار حل الدولتين، لكن اعلان بايدن بأنه حل بعيد المنال، يقطع الشك باليقين، حول قدرة ذلك النظام على تحقيق ذلك الحل.
وما دامت دولة فلسطين لم تقم في ظل الاستعمار القديم، ولا على هامش الحرب الباردة، ولا بدعم من النظام العالمي أحادي القطب الأميركي الذي تلاها، فإن النظام المتعدد الأقطاب الذي يلوح في أفق العالم، هذه الأيام، لا بد له أن يعالج ما تركته وراءها أنظمة عالمية سابقة، من ظلم حل بالشعب الفلسطيني المكافح من أجل عدالة إنسانية مفقودة، ولا بد له ان يقهر آخر وأسوأ احتلال، بقي من مخلفات تلك الحروب وتلك الصراعات الكونية التي أثقلت كاهل البشر بالعنف والقتل والتطرف.