قيام السعودية بإعدام 47 مواطناً ممن وصفتهم بالإرهابيين ومن بينهم الداعية الشيعي المعارض نمر النمر أجج الصراع بينها وبين إيران، ورد فعل إيران الذي يمثل تدخلاً في الشأن السعودي وادعاء تمثيل كل الشيعة من مواطني الدول العربية كذلك أدخل المنطقة في دوامة جديدة من النزاع الطائفي المقيت الذي لا بد وأن يترك آثاراً على ملفات إقليمية عديدة منها ملفات تنتظر التسوية كالملف السوري والملف اليمني، ويضع المنطقة على أبواب احتمالات قد تكون متناقضة ولكن الضرر سيقع بالتأكيد.
المصيبة في الصراعات الإقليمية والدولية القائمة في المنطقة العربية أنها تدار تحت شعار محاربة الديكتاتوريات والبحث عن الديمقراطية في حين أن الدول الداعمة والمؤيدة للأطراف المتصارعة هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية، وحتى الديمقراطية منها تجد نفسها متورطة في دعم تنظيمات إرهابية دموية. فبعض دول الخليج التي لها مشاكل مع النظام السوري تريد إسقاطه بحجة أنه نظام دموي، وترفض أي تسوية تبقي النظام في إطار مرحلة انتقالية ضرورية لتأمين انتقال السلطة بصورة سلسة ودمقرطة النظام عبر تغيير الدستور وإجراء الانتخابات، وهي في نفس الوقت تدعم «جبهة النصرة» و»جيش الإسلام» و «الجبهة الإسلامية» و»أحرار الشام الإسلامية» وغيرها الكثير من المجموعات التي تحمل مسميات إسلامية. والدعم هنا يأتي في إطار طائفي مجموعات سنية مقابل نظام علوي مدعوم من إيران الشيعية، وهنا تدخل على الخط مصالح تركيا والولايات المتحدة الأميركية اللتين تربطهما بالحركات السنية مصالح وتفاهمات تتجاهل طبيعتها الإرهابية والدموية والطائفية العنصرية.
وفي الطرف الآخر نجد النظام السوري وروسيا التي تدافع عن مصالحها في حوض البحر المتوسط وعن التهديدات الاقتصادية المترتبة على سقوط النظام في سورية، وهي تخوض حرباً شرسة ضد المجموعات الإرهابية المسلحة التي تهدد النظام، وإيران التي هي الأُخرى تبحث عن مصالحها المغلفة بغلاف طائفي لا يقل سوءاً عن المعسكر الثاني النقيض. وتنظر إلى سورية ولبنان والعراق كمناطق نفوذ وتأثير لها.
وحده الشعب السوري الذي يدفع الثمن في حرب خرجت كثيراً عن نطاق مطالبه المشروعة بالديمقراطية والتنمية، وأضحى مشرداً مدمراً وضحية مصالح لا تمت لمصالحه بصلة. وأي تسوية للحرب الدائرة في سورية ستحتاج لسنين طويلة من أجل عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل أن ينتقل إلى عهد النظام الديمقراطي الذي يحقق له كل أو جزءاً كبيراً من طموحاته. وقد أوصلوه إلى مرحلة يتمنى فيها أن يعود إلى ما كان قبل الثورة أمام هذا الواقع المأساوي والكارثي، فأنتجت الصراعات التي تدخل فيها العالم مأساة أصبح فيها بقاء نظام الأسد ضمانة لبقاء سورية وعدم تقسيمها إلى دويلات طائفية وإثنية، فتجربة العراق لا تزال ماثلة والضرر الذي نتج عن إسقاط نظام صدام حسين وحل حزب «البعث» لا يمكن إصلاحه في عقود من السنين.
وفي الوقت الذي يجمع فيه العديد من المراقبين على أن عام 2016 سيشهد بداية تسوية للملف السوري بعد اتفاق روسيا والولايات المتحدة، وبعد قرار مجلس الأمن الذي يحدد أسس التسوية استناداً إلى مؤتمر جنيف وتقرير المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا، حتى لو بقي مصير الرئيس بشار الأسد غير محسوم بشكل نهائي، فالآفاق باتت أكثر وضوحاً نحو القبول بصيغة انتقالية مع وجوده المؤقت حتى الانتخابات، تبدو الأمور الآن أكثر تعقيداً بعد التوتر المتصاعد في العلاقات بين السعودية وإيران.
واليمن ليس بأفضل حالاً من سورية وهو واقع بين فكي كماشة: الحوثيون المدعومون من بقايا نظام الرئيس المخلوع على عبد الله صالح وإيران من جهة، وقوات الرئيس عبد ربه منصور هادي المدعومة من السعودية والتحالف العربي من جهة أخرى، وهنا يظهر الوجه الطائفي للصراع كما في سورية، ولا يبدو أن نهاية المأساة اليمنية قريبة مع تصاعد الخلافات السعودية- الإيرانية، وفي كل مرة تظهر فيها مؤشرات للبدء بالتفاوض بين الأطراف المتنازعة تعود الأمور للخلف مع محاولات الطرفين لتحقيق إنجازات ميدانية والسعي لحسم يعزز المواقف التفاوضية.
لا شك أن منطقتنا بحاجة للديمقراطية كحاجتها للماء والغذاء ولكن هذه الديمقراطية لا بد وأن تكون تطوراً طبيعياً وتحت ضغط الشعوب، وبدون تدخلات خارجية ضارة من أطراف قمعية ودموية وأطراف لها مصالح أخرى اقتصادية وسياسية لا علاقة لها بحاجات الشعوب، فالديمقراطية لا تقبل التدمير وتحطيم القائم، فالدول والكيانات القائمة بغض النظر عن مستوى تقدمها ومستوى انفتاحها هي ملك لشعوبها وبنيت بمقدراتها ولا يجوز تدميرها تحت اي ظرف حتى لو تأخرت الديمقراطية. كما أن الأصوات المطالبة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان عليها أن تفحص نفسها، هل هي تقوم بذلك وهل تدعم أنظمة أخرى أكثر همجية وقمعية.
ولا يمكن تقبل دعوات ديمقراطية من أنظمة دينية أو طائفية لا علاقة لها بهذه المبادئ، أو أنظمة تقدم الدعم للاحتلال الإسرائيلي الذي يقمع الشعب الفلسطيني ويصادر حقوقه الوطنية، فهي لا بد أن تكون دعوات وطنية صادقة آتية من الشعوب ومدعومة من قواها الحية وينتصر لها الضمير الإنساني. غير ذلك ستكون هناك شكوك عميقة في أهدافها وأبعادها. وهذا ما نراه اليوم، ولهذا أعان الله الشعوب العربية على مصائبها وعلى عالم منافق يكيل بمكيالين.
-