بين "كاسر الأمواج" وكاسر العجز

حجم الخط

بقلم مهند عبد الحميد

 

 

 

تشهد الضفة الغربية تغيراً كبيراً في التعامل مع نظام الأبارتهايد الاستعماري الإسرائيلي.
وبحسب رئيس الشاباك رؤوبين بار، زادت عمليات إطلاق النار بنسبة 30% مقارنة بالعام الماضي، وجرى اعتقال أكثر من 2000 شخص، وتم إحباط 130 هجوماً ومصادرة 300 قطعة سلاح.
في حين بلغ عدد الشهداء ما ينوف على 85 شهيداً، وإذا ما أضيف لهم شهداء القطاع يصبح عددهم 135 في ثمانية شهور.
التقارير الإسرائيلية تتحدث عن فقدان السلطة الفلسطينية سيطرتها في جنين ونابلس وأنها لا تفعل ما يكفي لمنع المسلحين.
يأتي التصعيد والرد الشبابي بعد إخفاق سياسة «جز العشب»على مدى سنوات، وبعد سياسة «كسر الأمواج» العام 2022 المترافقة مع تسهيلات وحوافز اقتصادية وضغوط سياسية وتدخلات.
كل ذلك أدى إلى تعاظم روح المقاومة الفلسطينية، وإلى خلق معضلة استراتيجية لإسرائيل كما يقول مسؤولون أمنيون في المؤسسة العسكرية.
أما أسباب التحول في الوضع الفلسطيني فتعزوه سلطات الاحتلال إلى ضعف وإضعاف السلطة، وتهريب السلاح عبر الأردن، وشراء السلاح بأموال إيرانية عبر حركتي حماس والجهاد، وانفصال تنظيم فتح في جنين ونابلس عن السلطة.
دائماً تتعامل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية شأنها في ذلك شأن المؤسسات الاستعمارية مع قضية الشعب الفلسطيني كقضية إدارية وأمنية مجردة من أي بعد وطني وقانوني وحق تقرير المصير وحقوق إنسانية وكرامة.
دائماً يكون حل الأزمات بالترهيب وبالمزيد من القوة والحصار وبترغيب أقل، وكل ذلك بمعزل عن الجوهر.
دائماً تسود فلسفة أسياد وعبيد وغطرسة القوة. ورغم فشل تلك السياسات في كل مرة إلا أنها تستمر وتتكرر وتزداد صلفاً ووحشية. يكفي التوقف عند موقع فلسطين في الدعاية الانتخابية للكنيست - البرلمان - لنعرف الواقع المأساوي فقد أصبحت الحقوق الفلسطينية محط التنافس على من يكون أكثر تطرفاً ضدها، من ينكر تلك الحقوق أكثر، من يدعو إلى إجراءات أكثر وحشية، من يتسابق على القول إن هذا الصراع غير قابل للحل.
لا يمكن فصل استجابات الشباب والمزاج العام الفلسطيني عن السياسة الاستعمارية الممارسة في الواقع وكل الوقت. ما هو الرد الفلسطيني المتوقع من استباحة المستوطنين واعتداءاتهم على الأرض والممتلكات والمقدسات؟ وما هو الرد الفلسطيني المتوقع من قمع قوات الاحتلال لكل احتجاج  سلمي فلسطيني وحماية المستوطنين الذين يرتكبون أبشع الانتهاكات؟ .
بديهي القول لكل فعل رد فعل معاكس له في الاتجاه ومساوٍ له في المقدار.
كاسر الأمواج يقابله كاسر العجز الذي يعني كسر ثقافة العبودية. خلافاً لقوانين الطبيعة والعلوم، دولة الاحتلال لا ترغب ولا تقبل بأي رد فعل طبيعي، وإنما تدعو الشعب إلى الخنوع والقبول بالأمر الواقع وعلاقة أسياد/ عبيد.
الاعتقال اليومي والقمع اليومي والقتل لأتفه الأسباب، وشطب العدالة والحرية في العلاقة بين محتلين ومواطنين، وفي غياب جهة فلسطينية رسمية وغير رسمية تتحمل مسؤولية الدفاع عن المواطنين، هذه الأسباب وغيرها دفعت الشبان إلى الرد بطريقتهم ومحاولة حماية أنفسهم بأنفسهم فضلاً عن الانتصار لضحاياهم ولكرامتهم، ولم يكن للعوامل الخارجية دور مقرر، قد تكون عوامل مساعدة في ظل استفحال التناقض بين شعب واحتلال.
بدأت الظاهرة المسلحة في محافظة جنين وانتقلت إلى نابلس وهي مرشحة للانتشار في معظم المحافظات. وكان هذا الاحتجاج المسلح غير المنظم امتداداً للاحتجاجات الفردية – ظاهرة الطعن والدهس» الفردية، وهو في كل الأحوال طور جديد من أطوار النضال وأسلوب نابع من خصائص الصراع.  
الرد الإسرائيلي الممارس هو المزيد من الاعتقال والقتل والاقتحامات اليومية، والتهديد بعملية كبيرة على غرار عملية 2002 التي قامت بتطهير المدن والمخيمات من المقاومين. والمزيد من الضغوط على السلطة بغية مشاركة أجهزتها الأمنية في إطفاء النيران، والعودة إلى مستوى من التعايش مع الوقائع الاستعمارية.
غير أن أي استجابة فلسطينية لماكينات الضغوط الإسرائيلية والأميركية والعربية، ستؤدي هذه المرة إلى انفصال السلطة النهائي عن قضايا شعبها وعن نضالهم في غياب المسوغات، سابقاً، جرى تبرير التنسيق الأمني بتسهيل الانسحابات الإسرائيلية من المدن والبلدات والمخيمات ونقل مهمات سلطة الاحتلال والإدارة المدنية إلى السلطة الفلسطينية، ولاحقاً برر استمرار التنسيق الأمني لتعزيز الشرعية الدولية بترسيم الانضمام للمؤسسات الدولية بما في ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتسهيل الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية تحت الاحتلال.
أما الآن فلا يوجد أي مسوغ في ظل مضاعفة الاستيطان والتطهير العرقي في القدس ومناطق (ج) والانتهاكات اليومية للمسجد الأقصى وهدم المنازل والاستباحة.
لا يوجد شيء تقايض به السلطة غير البقاء والاستمرار ضمن مهمة منفصلة عن الحقوق والمصالح وهي في حالة حدوثها ستؤدي إلى الانفصال عن الشعب.
التعايش بين الاتجاهات السياسية وأشكال النضال، بين المبادرين والعاجزين، بين العفوية والوعي، بين المتفرجين والمكتوين بالنار، بين أصحاب الامتيازات والنفوذ والذين يلوون من شدة العوز والحاجة. هذا التعايش لا يمكن أن يعمر طويلاً. بدأ نقض التعايش فعلاً مع الاحتلال ولكن بمقاس المزاج والعفوية الذي عبرت عنه الظاهرة الشبابية المسلحة التي فتحت الأبواب أمام التغيير الداخلي وإعادة البناء. وهنا يبرز تحدي العفوية والمزاج للوعي الذي سجل قصوره على مدى زمني طويل، وكان عنوان القصور هو التذيل بالعفوية والخضوع لها.
دولة الاحتلال تمارس الآن شكلاً من أشكال التصفية للظاهرة العفوية المسلحة كجزء من معركة التصفية السياسية للقضية برمتها، وتحاول قطع الطريق على تدخل الوعي الإيجابي، ذلك التدخل الذي يساعد في الخروج من المأزق ووضع المشروع الوطني على سكة تلاقي المصالح الحقيقية للسواد الأعظم من الشعب.
إنها قضية التغيير ودينامياتها الداخلية غير التقليدية. ديناميات إعادة البناء بمبادرة ومشاركة الذين لهم مصلحة في بناء جديد يمثلهم ويكون مخلصاً في الدفاع عنهم.
إذا دعونا إلى انتخابات مثلاً، فأي انتخابات نريد، انتخابات على طريقة جامعة بيرزيت أو على طريق انتخابات نقابة المحامين، ثمة فرق كبير بين الشكلين والنتيجتين، فرق في الديمقراطية وفي جوهر التغيير وفي الانعكاس الإيجابي على مسار التغيير، يجوز الاعتقاد بأننا نشهد بداية فتح الأفق أمام إمكانية تحقيق الغلبة لكاسر العجز فينا على كاسر الأمواج لديهم.