ثمانية عشرَ عاماً مضت على رحيلِ واغتيالِ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي أُعلن نبأ وفاته في الحادي عشر من نوفمبر عام 2004، من مستشفى "بيرسي" العسكري بفرنسا، ولم يُحل لغز اغتياله حتى يومنا هذا.
ياسر عرفات القائد والأب الروحي لكل من عرفه ولكل من اتفق أو اختلف معه، بل لكثير من مُحبيه في العالم، رحل بل اُغتيل في ظروفٍ غامضة، وعدم الوصول إلى حقائق أو أدلة بخصوص اليد التي وضعت له السُم وأدت إلى وفاته حتى هذه اللحظة، يزيد من الأمر غموضاً وتعقيداً.
استشهاد عرفات كان وقعه كبيراً ومؤثراً على الشارع الفلسطيني، حيث أُثيرت العديد من الشكوك في البداية حول المرض الغامض الذي لم يُمهل أبو عمار إلا أيامًا معدودات قبل أنّ يُجهز عليه، وقد سُجلت ملاحظات وشهادات عدة ممن كانوا حوله في أيامه الأخيرة، والتي أجمعت على أنَّ صحته كانت تتدهور بشكلٍ متسارع وبطريقة غير منطقية، وتَكوّن لدى المواطنين الفلسطينيين إجماع كبير على أنّ الوفاة لم تكن طبيعية البتة، وإنما هي اغتيال مُخطط له ومدُبر في الخفاء لإنهاء حياته، ومن الطبيعي أنّ تتوجه أصابع الاتهام إلى الاحتلال الإسرائيلي في تدبير عملية الاغتيال، ولم تَستبعد الكثير من الآراء فرضية تورط بعض المحيطين به في اغتياله.
قرار السلطة كان سريعًا وحاسمًا في عدم تشريح جثة ياسر عرفات والإسراع في تشييع جثمانه، وهو القرار الذي أنهى الجدل الحاصل في حينها وما زال صداه يتردد إلى اليوم، ولكِنه يُفوت الفرصة على أيّ محاولة للبحث عن الحقيقة أو تقصي أسباب الوفاة الغامضة واستبيانها، بالإضافة إلى أنَّ نتائج لجان التحقيق التي تم تشكيلها من قبل السلطة وغيرها من الجهات الدولية لم تُعلن ما يتوق له الشعب الفلسطيني بمعرفة من كان وراء اغتيال رمزهم ومفجر ثورتهم المعاصرة.
"إسرائيل" لطالما كانت تسعى وتُعلن للملأ رغبتها في التخلص من ياسر عرفات، وخصوصاً بعد الانتفاضة الثانية، حيث اتهمته بالتحريض على ما وصفته بـ"الإرهاب" عليها، ولكِن الفرصة لم تكن سانحة في ذلك الوقت، حتى محاصرة شارون للرئيس عرفات ورفاقه في مبنى المقاطعة، فكانوا يعتزمون اغتياله وضربه بالصواريخ، لكِن اتصالاً من الرئيس الأمريكي جورج بوش آنذاك أوقف هذا المخطط، وطُلب من شارون عدم التعرض للرئيس عرفات، فلم يكن من شارون إلا أنّ نفذ مخططه بطريقة خبيثة أخرى ليتم اغتياله اغتيالًا ناعمًا لا دماء فيه ولا صراخ، حسب ما أخبر صحفي إسرائيلي المستشار الخاص بعرفات في حينه، بسام أبو شريف.
شاهد بالفيديو: وكالة "خبر" كانت قد استضافت المستشار الخاص للرئيس الراحل ياسر عرفات، بسام أبو شريف، حيث تحدث عن الفترة ما قبل وبعد تدهور صحة أبو عمار.
مَّن يخفي الحقيقة مُشارك في الجريمة
عضو المجلس الثوري لحركة فتح، فخري البرغوثي، اتفق مع بسام أبو شريف، على أنَّ الرئيس عرفات قُتل بأيدٍ فلسطينية وبتخطيط إسرائيلي، حيث قال لمراسلة وكالة "خبر": "إنَّ اغتيال ياسر عرفات كان بتخطيط إسرائيلي وبأيدٍ فلسطينية معروفة ومعلومة لدى السلطة وكانوا حول الرئيس في ذلك الوقت، وهم نفس الأشخاص موجودين حول الرئيس محمود عباس في وقتنا الحاضر".
وأكّد البرغوثي، على أنَّ اللجنة المكلفة بالتحقيق في اغتيال أبو عمار لن تُعلن النتائج، لأنّهم لو أرادوا إعلانها لن ينتظروا تلك السنوات، مُردفاً: "ببساطة لا يريدون ذلك" وفق تعبيره.
وتساءل: "عرض الحقيقة وإطلاع الشعب على مجريات التحقيق، وكشف الجناة، لا يحتاج لا يوم ولا شهر، فكيف مر على ذلك 18 عاماً؟!"، مُستدركاً: "هُم أي -المتنفذين بالسلطة- يعتبرون أنّ الإعلان عن الأشخاص المتورطين في عملية الاغتيال سيضر بأشخاص كثر ممن كانوا حول عرفات".
اقرأ أيضاً| شاهد: الطيراوي يكشف حقيقة الأنباء حول قرصنة وثائق تابعة للجنة التحقيق باغتيال عرفات
وحول الوثائق التي تم نشرها على تطبيق" تيلجرام "من قبل جهة مجهولة والتي سربت خلالها إفاداتٍ لمسؤولين حاليين وسابقين في السلطة الفلسطينية، بشأن اغتيال أبو عمار وعلاقته الغير مستقرة بالرئيس أبو مازن، وهو الأمر الذي دفع بعدها رئيس اللجنة المكلف اللواء توفيق الطيراوي بنفي صحة تلك الوثائق، والتأكيد على أنَّ أعوان الاحتلال يُريدون تظليل الرأي العام وتحطيمه، حيث طالب الجهات المختصة بالبحث والتحري عن الذين سربوا مثل تلك الوثائق المزيفة، عقب البرغوثي على ذلك، بالقول: "جميعهم سيقولون نفس الحديث وينفون صحة تلك الوثائق، طالما الوضع السياسي للسلطة يسير على نفس النهج، وأنّ كشفها سيضر بمصلحة متنفذين داخل السلطة، فمن يخفي الحقيقة هو بكل تأكيد مشارك في الجريمة".
هيئة وطنية للتحقيق باغتيال أبو عمار
بدوره، قال رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، صلاح عبد العاطي: "إنّنا نستذكر في هذه الأوقات كل ما قدّمه ياسر عرفات للقضية الفلسطينية، والذي سيبقى نبراساً لكل الثوار وأحرار العالم، ونفتقده في تلك الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية"، مُضيفاً: "بعده بتنا في حالة تيه وضياع، وجاءت بعده قيادة لا ترقى بالمطلق لمستوى ما قدمه هو للشعب الفلسطيني، ونؤكد أنّ الثوار لا يموتون، وأنّه سيبقى حياً في نفوس وعقول وقلوب كل الفلسطينيين، وكما كان يقول ستستمر هذه الثورة إلى أنّ يرفع شبل أو زهرة علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس".
وشدّد عبد العاطي، في حديثه لمراسلة وكالة "خبر"، على ضرورة إعادة النظر في ملف التحقيق باغتيال عرفات، واصفاً إياه بأنّه يفتقد للمهنية والمصداقية ويشوبه حالة من التسويف والمماطلة، وما تسرب من نتائج التحقيق يُشير إلى ذلك بوضوح، وهذا يتطلب إعادة تشكيل هيئة وطنية تُشرف على هذا الملف وتُقدم الحقيقة للناس دون تزييف".
حركة شعبية ضاغطة لإجبار المنقسمين على المصالحة
وفي السياق ذاته، شدّد الكاتب والمحلل السياسي، نهاد أبو غوش، على أنَّ الخصم الرئيس للفلسطيني وللشهيد عرفات هو الاحتلال دون أدنى شك، مُضيفاً: "هم من حاصروه ودمروا المقاطعة وجوعوه هو ومن معه، ومنعوه من الحركة واعتبروا التخلص منه شرطاً لاستئناف عملية السلام، وبالتالي كل الملابسات والظروف تشير إلى مسؤولية الدور الإسرائيلي في الوقوف على عملية اغتيال عرفات".
وانتقد أبو غوش، في حديثه لمراسلة "خبر"، التوقيت الذي تم فيه إعادة فتح ضريح أبو عمار وأخذ عينة من رفاته للفحص، كونه جاء مُتأخراً للغاية، حيث كان من الممكن أنّ يجري هذا العمل في وقت مبكر عن ذلك دون انتظار ست سنوات لتنفيذه.
ودعا إلى عدم حرف الأنظار عن المتسبب في قتل عرفات، وهو الاحتلال الذي كان دائماً يلوح بضرورة اغتياله، وسخَّر قدراته وكافة عناصره لهذا الهدف، مُؤكّداً على وجود مُشاركين في هذه الجريمة، والذين يجب محاسبتهم بتهمة الخيانة.
أما عن ملف المصالحة الفلسطينية وارتباطها بذكرى اغتيال عرفات، قال أبو غوش: "إنَّ ياسر عرفات هو رمز الوطنية الفلسطينية، ورمز صمود الشعب الفلسطيني، وكثيرين اختلفوا معه وربما خاصموه، ولكِنه كان منفتحاً على الرأي الآخر ومتقبلاً لتعدد الآراء والأفكار في الساحة الفلسطينية، وكان يُدرك ماهية الوحدة الوطنية، وللأسف هذه المعادلة ضاعت منذ الانقسام الفلسطيني، وأصبح الخلاف الداخلي سبباً للانقسام ولم نعد قادرين على رؤية القاسم المشترك بيننا."
وتابع: "الآن في ضوء نتائج الانتخابات الإسرائيلية وعودة اليمين المتطرف مرة أخرى إلى سدة الحكم، يعني أنّه ليس هناك أيّ أوهام يُمكن تعليقها على أيّ قائد إسرائيلي وحتى في أمريكا، فجميعهم وجه واحد لعملة واحدة هدفها قتل الفلسطيني وتدميره."
وأكّد أبو غوش، على أنَّ المصالحة هي المسالة الوحيدة التي تُعيق إنهاء الانقسام، ووجود بعض الفئات التي لديها مصالح زادت من عمر الانقسام.
وحث على دفع الجميع للقبول بالعودة إلى رحاب الوحدة الوطنية وهو ما يتطلب جهداً متواصلاً من كل القوى المعنية والاتحادات الشعبية، ومن المجتمع المدني والمثقفين والإعلاميين، مُردفاً: "لا يجب انتظار تحقق الوحدة الوطنية لوحدها في لحظة انعقاد المؤتمرات في هذه العاصمة أو تلك، بل يجب أنّ تكون هناك حركة شعبية ضاغطة لتجبر الجميع على الجلوس وإنهاء هذا الملف الذي أخد من أعمار أبناءنا كثيراً".