تبددت أحلامهم وذهبت طموحات العيش الكريم أسوةً بشباب العالم أدراج الرياح، فلم يعد وطنهم يسكن فيهم ولا هم يسكنون فيه، ولا بصيص أملٍ لمستقبلٍ واعدٍ في غزة، فرغم التحذيرات التي يطلقها الناشطون والإعلاميون من غزة وخارجها، والتي تحث الشباب على صرف النظر عن الهجرة لأوروبا بطرق غير شرعية، وخصوصاً أنَّ عمليات الغرق والفقدان ازدادت في الآونة الأخيرة، وعاد بعضهم محمولاً في تابوتٍ، ويتجرع أهله ومحبيه ألم الفراق والحسرة، إلا أنَّ بعضهم لا يتعظ ولا يتوانى للحظة عن التفكير بالهجرة.
المسؤولون لم يتركوا لنا مجالاً
"أحمد عبد النبي"، شاب ثلاثيني، تعتقد بالنظر إلى وجهه أنّه طاعنٌ في السن، فقد اختفت ملامحه الشبابية وحل مكانها ملامح التعب والهم، حيث تحدث لمعدة التقرير عن حلمه في الهجرة، فقال: "لم أترك مكاناً للبحث عن عمل إلا وطرقته، فقد أنهيت تعليمي الجامعي منذ سبع سنوات ومنذ ذلك الحين أبحث عن فرصة عمل، تارةً أجد عمل في البناء وأخرى في بيع الشاي والقهوة، وكل تلك الأعمال كانت لا تسد قوت يومي"، مُردفاً: "الفرص في غزّة تكاد تكون معدومة لمن هم مثلي، هي فقط لمن لهم واسطات ومعارف".
وتابع عبد النبي، في حديثه لمراسلة وكالة "خبر": "لم أكن أفكر للحظة بأنّ يُصبح الحال في غزّة مثل ما هو عليه الآن، ولو اعتقدت ذلك للحظة واحد لما كنت قد تعلمت ودرست وأرهقت كاهل والدي وأنا أراه يستدين لإكمال دراستي الجامعية"، مُستدركاً: "كنت عملت في أيّ شيء منذ الصغر وتعودت، لكِني الآن خريج عاطل عن العمل، وإنّ حصلت على فرصة عمل سأصبح فريسة لأرباب العمل، الذين يستغلون حاجتي للعمل، ويعطونني فتات الراتب وأضطر للقبول لكي لا أعود لوالدي فارغ اليدين".
وبالحديث عن رأيه بالشباب الذين يُهاجرون وبعضهم يعود محمولاً في تابوت، قال: "الشاب الذي خرج بحثاً عن حياة كريمة ولم يوفق ومات في الغربة، هو فعلياً عمل ما كل ما بوسعه فحاول وفشل، هو ميت في غزّة وإنّ مات خارجها لا يختلف كثيراً، بالعكس أنا أفكر أيضاً بالهجرة، ومنذ أشهر وأنا أجمع بعض النقود لاستخراج جواز سفر وتكاليف الفيزا لتركيا، وسوف أستدين من أحد أقاربي مبلغاً يُعينني في رحلة الهجرة لأوروبا".
وأكمل عبد النبي: "المسؤولين في غزّة لم يتركوا لنا مجالاً للتفكير في حلٍ آخر، أكلوا مالنا وسنوات عمرنا ومستقبلنا، هم وأولادهم لا ينقصهم شيء، فيُسافرون كثيراً ويستجمون، أما نحن نموت يومياً ونحن على قيد الحياة".
رائد أبو عايش "32 عاماً"، عاد إلى غزّة بعدما عمل في مجالي المحاسبة والسياحة بتركيا، وقال لمراسلة "خبر": "تخرجت من جامعة الأزهر قبل عشر سنوات، وكنت متفوقاً على دفعتي ولم أرغب يوماً بالهجرة، ولم أخطط لها، فكنت أريد كأيّ شاب أنّ أعمل وأؤمن حياتي مادياً وأفكر بمستقبلي، لكِن كل الطرق في غزّة مغلقة، انتظرت انتهاء أزمة كورونا، لكن المعيشة داخل سجن غزّة أصعب من أيّ مكان، والتفكير والأرق والقلق من المستقبل تتسبب بضغط نفسي أعاني منه كثيراً، لذا أبحث حالياً عن أيّ وسيلة للمغادرة، ولا أستبعد الهجرة السرية لأننا هنا في حالة موت".
وبسؤاله عن سبب عودته لغزّة، بعدما كان يعمل في تركيا، أوضح أنّه عاد إلى قطاع غزّة بسبب مرض والدته ومن ثم وفاتها، حيث عاد لكي يرى والدته التي كانت تحتضر، مُضيفاً: "رؤسائي بالعمل لم يسمحوا لي بالعودة لغزّة ولم يوافقوا على إعطائي أيّ إجازة، إلا أني أقنعتهم بأنني سأسافر مدة بسيطة لا تتجاوز الأسبوع ومن ثم أعود، لكِن مرض والدتي استمر عشرون يوماً ومن ثم توفيت بعدها، فدخلت في حالة نفسية صعبة، حيث توفيت والدتي ومن ثم خسرت مصدر رزقي وعملي، وبقيت هنا أفكر في طريقة أخرى للحياة".
الخمسيني أبو خالد سرور، وهو والد شابين هاجرا إلى أوروبا، ومن حسن حظهم أنّهم وصلا إلى بر الأمان، في ظل حالات الفقدان على طرق البر والبحر.
أبو خالد المنحدر من قرية المجدل، يقول: "قدرنا نحن كفلسطينيين أنّ نعيش التهجير من الآباء للأبناء للأحفاد، صحيح أنّ الأسباب اختلفت، لكنها جميعاً اتفقت على أنّ يدفع الفلسطيني الثمن، حيث إنَّ عدم توفر فرص عمل جيدة مع تردي الظروف الاقتصادية التي نعيشها والانقسام البغيض، جميعها أسباب دفعت بالشباب نحو الهجرة بعد فقدانهم الأمل بحياةٍ كريمة في بلادهم".
واستدرك: "أنا حزين لبُعد أبنائي عني، لكِن هذا الحزن ممزوج بشيءٍ قليلٍ من الفرح، لا سيما وأنّ أبنائي خرجوا ليجدوا فرصة عمل وليصنعوا مستقبلٍ أفضل وليبحثوا عن حياتهم الجديدة"، مُكملاً: "على الأقل أنا الآن مطمئن نوعاً ما على مستقبلهم، وأنّهم لن يعانوا الوجع الذي عايشوه في غزّة مرةً أخرى".
أما الشاب رمزي سمير، فقال: "بعت ذهب زوجتي من أجل إنجاز معاملات السفر للخارج لي ولزوجتي وأبنائي الأربعة الصغار، بحثاً عن فرصة عمل ومسكن آمن بعيداً عن الفقر والبطالة والجوع الذي خلفه الحصار والغلاء".
وعن مخاوفه وتفكيره في رحلة القوارب إلى أوروبا، بيّن سمير، أنّه مع كل أنباء تنتشر عن غرق قوارب الهجرة، يشعر بتخوفٍ كبير و"انقباض القلب" لتخيله أنّه غرق مع أسرته في ذلك القارب، مُضيفاً: "أعود وأفكر مرةً أخرى بالعدول عن فكرة الهجرة من غزّة، لكِن ما نعيشه على أرض الواقع يجعلني أصمم على الهجرة، فأنا هنا ميت، وما كتبه الله لي سأراه، وأتمنى أنّ أوفق في رحلتي وأستطيع تأمين حياة كريمة لعائلتي وأولادي".
كذلك الشاب نعيم المصري، فيعمل هو أيضاً ليل نهار من أجل جمع ثمن التنسيق لدخول معبر رفح وتوفير تكاليف السفر لبلد ما، عله يجد فرصة عمل أفضل تُوفر له راتباً شهرياً يعتاش من خلاله، بدلاً من حياة الذل والقهر التي يعيشها، وفق حديثه.
نعيم هو شاب خريج من كلية التربية تخصص "لغة عربية"، لكِنه لم يعمل يوما بشهادته التي سهر الليالي من أجل الحصول عليها، فما أنّ أنهى دراسته الجامعية حتى وجد كل الأبواب قد أُوصدت في وجهه، والبطالة قد غزت قطاع غزّة المحاصر.
واكتفى الشاب المصري، بالقول: "ليتني لم أتعلم ولم وأسهر، فأنا خريج وأحمل شهادة جامعية لكي أنضم إلى جيش العاطلين عن العمل، وها أنا أنتظر عطف وزارة العمل ببطالة أو مشروع".
وما بين التفكير والخوف يظل طريق الهجرة محفوفاً بالمخاطر وليس مفروشاً بالورود، بل كلَّف عشرات الشباب من قطاع غزّة حياتهم، ولذلك يُفجع أهالي القطاع من حينٍ إلى آخر بفقدان شباب في عمر الورود على طريق الهجرة إلى أوروبا، إمّا غرقاً أو يبقون في عداد المفقودين، والمسؤولين لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت.