هو التكرار ... في الحرب لا جديد لأن الدم لا يتوقف ... كما النهر يجري بلا حساب إلا لمن لا يرى العالم إلا من فوهة البندقية ويعيش على الدم ... كل العالم تعلم من التاريخ إلا إسرائيل لا لسبب سوى أن العقل بتجربته التاريخية وإرثه الأيديولوجي أصبح معتلاً لكثرة ما أثقل على نفسه بوطأة الصراعات لذا بات من المستحيل أن ينتج سياسة سوية.
تتكرر الحرب بيومياتها التي تصيب القلب بالقهر، تحاول فيها ألا تفقد عقلك وتوازنك ولكن المأساة أكبر من أن يستوعبها عقل بشري ... الحزن مكرر وهو يجعل الكاتب أسيرا في مناخاته يشعر بخيانة القلم والضمير فيما لو خرج عن الحرب وعن الإنسانية التي يتم سحقها وسط جمهور عالم كأنه يتفرج على المصارعة من مدرجات روما القديمة.
كل شيء مكرر وقد يصيب القراء بالملل ولكن التكرار الكوني لا يتوقف فإذا كانت الولايات المتحدة تكرر استعمال «الفيتو»، ولا تكف عن تكرار شعار «أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها» وتكرر إسرائيل قتل الشعب الفلسطيني أينما كان في نابلس والقدس وجنين والقتل الجماعي في غزة ومصادرة حقوقه فلماذا تكرار شكوى الضحية يكون مملاً؟ أم أن الضحية لا يحق لها تكرار الشكوى والبكاء؟ شعبنا يتم إعدامه بالجملة.
قطاع غزة أصبح مكاناً لليأس والموت هكذا تقول الأمم المتحدة التي تقف على جدار العجز والخيبة من عالم ظنت نفسها أنها يمكن أن تشكل فيه رافعة للإنسانية وإذ بالعالم يطيح بها وبما تمثله من وثائق اجتهد صانعوها وهم يناقشون ويكتبون مصدقين أن ما يصنعونه يساوي شيئا في عالم المصالح ... عالم باتت جيوبه هي المرجعية وليس قلبه ... عقله الجاف وليس ضميره الذي نُحّي جانبا ودخل في سبات مزمن إلى يوم الدين تاركا للبشرية أن يقودها الجنون.
قتل ثم قتل ثم قتل، هكذا يبدو المشهد المدمر للنفس البشرية، أهلنا قتلوا هكذا بلمحة بصر دون أن يرف جفن للعرب والمسلمين والعالم الذي يراقب تفاصيلنا وينشغل برصد تجاوزاتنا الساذجة لحقوق الإنسان ليفرض علينا ما شاء من عقوبات وتجويع حتى ظننا أنه تقمص ثوب الآلهة أو أنبيائهم على الأرض وإذ به يصمت كالشياطين حتى تلك لم تكن تقبل أن يتم قتلنا بدم بارد إلى هذا الحد ... يا الله.
غزة خرجت عن الخدمة ... كل شيء يموت هناك ... أطفال يقتلون بالصواريخ ... قبل يومين كانت مناشدة تقطع القلب من العائلات النازحة في مدارس غرب غزة تكتب فيها سيدة أنهم بلا ماء أو غذاء، الأطفال والشيوخ أصابهم الجفاف، يأكلون ورق الشجر، طفلان منهم ماتا بسبب الجوع والباقي ينتظر... هذا يحدث في أماكن أخرى في غزة، جوع وأمراض وقتل وصواريخ وعطش وخوف وفزع وترويع ورعب وقلوب منكسرة وحزن فاض على اليابسة وأغرق البحر الذي يحتضن غزة، غرق البحر بحزنها بدل أن تغرق به كما تمنى اسحق رابين يوما.
أظن لو أن الدم الذي سال على يابسة غزة سال في البحر كان سيصبغ شواطئ أوروبا التي تقف شاهدة متفرجة على هذا العذاب المستمر بلا توقف تاركة للمختل أن يستكمل ما ينتجه عقله من موت جماعي، ذات يوم، قالت قيم العالم، إن هذا جريمة تستحق المحاكمة لأنها تعني ما هو مضاد لاستمرار الحياة واستمرار الحضارة وتعني زراعة قيم سوداء، إذا ما أصبحت ثقافة فعلى البشرية السلام، لذا تجندت القوة والقيم لوأدها، ولكن ما أثبتته التجربة أن تلك الدعوة تخضع لمعايير خاسرة. إنها بلا شك تهدد كل تلك القيم التي راكمتها الحضارة الإنسانية على امتداد تاريخها المكلف جدا ... كل هذا يتساقط أمام ما تفعله إسرائيل بغزة.
غزة أصبحت مقبرة جماعية، الناس يدفنون في الشوارع العامة، في كل شارع جثث وأضرحة وبيوت مدمرة تحتضن جثامين أصحابها وقصصا وروايات وذكريات ودموعا لن تجف لمن بقوا أحياء يحملون انكسارهم أينما يرحلون وينتظرون الموت. خيام تنتشر في أقصى الجنوب تسجل أكبر كارثة إنسانية عرفتها البشرية في عقودها الأخيرة حيث الجوع والبرد الشديد والمطر وانتشار الأمراض المعدية ولا مستشفيات ولا دواء ولا أطباء، مات معظمهم، وأناس فقدوا أطرافهم يتكئون على الوجع، لا يمكن وصف الكارثة على الورق فللمأساة رائحة قال صديقي الهارب من الجحيم ... ما زلت أشم رائحة الموت واللحم المحروق والممزق في الشوارع ... سرت مسافة كبيرة ترافقني رائحة أشمها لأول مرة أصبحت جزءا من أجهزة إحساسي، لن أكون بخير.
غزة بين شهيد وشريد ... يقول من هو هناك، «محظوظ من قتلته الصواريخ مبكرا لأن الموت أكثر رحمة وأخف وطأة من الذل والجوع والتشرد والرعب وانكسار القلب والروح ... فالموت يؤلم الأحياء وليس الأموات، الأحياء هناك لا يحملون وجع الفقد بل وجع التجويع المنظم ووجع الإصابات وفقدان الأيدي والأقدام وهدم البيت وانتهاء مستقبل من بقي من الأولاد بلا مدارس أو جامعات ولا شيء، كل شيء مات في غزة والعالم يكتب شهادة الوفاة لسكانها ... وأيضا لشرعيته الدولية».