ما زالت المفاوضات حول ورقة صفقة باريس الخماسية داخل عنق الزجاجة دون قدرة الأطراف المباشرة على رفضها أو الموافقة عليها. فالمفاوضات تجري بشأن قضايا جوهرية في مقدمتها وقف اطلاق النار ، وانسحاب قوات العدوان والاحتلال من قطاع غزة، وتبادل الأسرى، وقضيتا الاعمار وعودة النازحين إلى بيوتهم، بالاضافة إلى تدفق المساعدات الاغاثية ورفع الحصار عن القطاع .
وتشير المعلومات المسربة حول اتفاق"صفقة باريس" إلى أنه في الوقت الذي ينص فيه الاتفاق بصورة واضحة ومحددة على آلية تبادل الأسرى، الذي يعتبر حاجة إسرائيلية، حيث يسعى نتانياهو لاغلاق هذا الملف، لمنعه من التدحرج نحو اتساع المطالبة بوقف الحرب، فإن بنود اتفاق الصفقة تتجاهل مسألتي وقف اطلاق النار وانسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة، الأمر الذي يشكل أولوية مفتاحية لوقف المجازر، وضمان قدرة الناس على العودة إلى بيوتهم أو أماكن سكنهم.
كما أن نص الاتفاق لا يقدم أي ضمانات إقليمية ودولية بعدم تجدد العدوان أي الاستمرار بارتكاب المجازر ضد المدنيين، كما أنه لا يقدم أية ضمانات ملموسة وموثوقة بانسحاب قوات الاحتلال، في وقت أن أركان حكومة الحرب يواصلون اعلانهم وتمسكهم باقامة منطقة عازلة، أي استمرار الوجود العسكري بل واقتطاع جزء من أرض القطاع المحدودة أصلاً لهذا الغرض. هذا في وقت أن اسرائيل سبق واقتطعت ما يزيد على مئة وثلاثة وتسعين كيلو مترا مربعا من مساحتة القطاع وفقاً لخطوط الهدنة لعام 1949، التي أشارت إلى أن مساحة قطاع غزة هي 555 كيلو متر مربع وليس 362 . فتغييب النص الواضح عن مسألة الانسحاب الكامل، قد يحمل مؤشراً تستثمره اسرائيل لتنفيذ خطتها بالمنطقة العازلة، الأمر الذي يتعارض مع المواقف المعلنة لأطراف الاتفاق بما في ذلك واشنطن التي سبق وأعلنت في أكثر من مناسبة رفضها لاحتفاظ اسرائيل بأي مساحة من أرض القطاع .
حكومة حرب نتانياهو التي تعاني من تفجر خلافات جذرية بين أركانها، تناور إزاء اتفاق الصفقة هذا، في محاولة لابداء الحرص على اعادة أسراها من القطاع دون أن تلزم نفسها بأي من المطالب الفلسطينية التي تصر عليها قوى المقاومة. كما يفتقر الاتفاق إلى الالتزام الواضح باعادة الاعمار وتأمين النازحين، الذي لم يأت ذكره سوى في الاطار العام، في وقت أن مخططات اسرائيل للتهجير لم تُطوَ بعد، وهي مصممة على السيطرة على شريط محور فيلادلفيا ومعبر رفح للتحكم بشكل رئيس في عرقلة دخول مواد الاعمار، مبقيةً هدف ما تسميه "التهجير الطوعي" مفتوحاً على مصراعيه في سياق خطتها لاستكمال تنفيذ ماعجزت عنه عسكرياً لاجتثاث حركة "حماس" والمقاومة عبر التحكم بعملية اعادة الاعمار .
في المقابل، فإن حركة "حماس" وقوى المقاومة ، ورغم ادراكها للكارثة الانسانية الناجمة عن حصار القطاع، وعرقلة دخول المساعدات، ومدى حاجة الناس لوقف الحرب، الذي بات يشكل حالة اجماع شعبي فلسطيني، ومن قبل الشعوب المساندة لشعبنا وقضيته العادلة ، فهي أيضا تعلم أن معيار ضمان عدم فكفكة الحاضنة الشعبية للمقاومة يتطلب التزاماً واضحاً بمنع التهجير بكل مسمياته، والبدء الفوري في اعادة اعمار ما دمره العدوان الهمجي المتواصل على القطاع. ومن الواضح أن موقف "حماس" الداعي لتشكيل حكومة وفاق وطني مسؤولة عن ادارة شؤون الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية على حد سواء، ينبع من مدى الحاجة لحكومة قادرة على التصدي الفعال لقضية اعادة الاعمار، والتي بدونها ، فمخاطر التهجير تظل قائمة .
صحيح أن ما ينقله الوسطاء لحركة "حماس" بأن مسار اتفاق الهدنة سيؤدي إلى وقفٍ دائم لاطلاق النار، حيث سيكون من الصعب على حكومة الاحتلال العودة للحرب، ولكن الصحيح أيضاً أن عدم الالتزام بذلك يبقي الأمر في يد اسرائيل بمواصلة عدوانها وإن بأشكال مختلفة، ولا يمكن استثناء سياسة الاغتيالات .
وفي هذا السياق فإن مطلب "حماس" وقوى المقاومة بضرورة وجود آلية حقيقية وعملية وضامنة تؤدي فعلياً إلى وقف إطلاق النار، وانسحاب "إسرائيل" من غزة، هو موقف ضروري لمنع ابقاء المبادرة في يد الحكومة الاسرائيلية، وهو ما تخطط له قوات الاحتلال لجهة فرض أمر واقع شبيه لما يجري في الضفة الغربية المحتلة بالسيطرة الأمنية الشاملة التي تمكنها من تنفيذ الاجتياحات والاعتداءات اليومية على المواطنين الفلسطينيين.
وهنا يبرز غياب أمر في غاية الاهمية لجهة الحاجة لضمانات بوقف الاعتداءات الارهابية واليومية من قبل قوات الاحتلال وميليشيات المستوطنين ضد أبناء شعبنا وممتلكاتهم ومصادر رزقهم في أرجاء مدن وبلدات وقرى الضفة الغربية، الأمر الذي يؤكد مدى الحاجة لوحدة الموقف الوطني ازاء مسألة الوقف المتبادل للعنف بما يشمل الضفة الغربية وارهاب المستوطنين، وليس اقتصار ذلك فقط على قطاع غزة، في وقت تُطلق فيه يد جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين بارتكاب مزيد من الاعتداءات الارهابية للتضييق على حياة الناس، ودفعها لمغادرة أرضها وحصرها في كانتونات تمهيداً لترحيلها.
إزاء هذا، وبعد سنوات الانقسام الطويلة، وما خلفته من تآكل غير مسبوق للنظام السياسي ودوره، فإنه من المستغرب أن يستمر بعض رموز هذا النظام في ترداد معزوفة الشروط المسبقة أمام حركتي "حماس" والجهاد، بما في ذلك الالتزام بقواعد أوسلو، وبما يسمى بشروط الرباعية التي لم تعودا قائمتين سوى لدى هؤلاء ، وما يعكسه ذلك من اصرار على البقاء داخل أقفاص أوسلو وقيود الانقسام ، وهو ما يبقى لحكومة الاحتلال القدرة على المناورة والمضي قدماً في تمزيق الكيانية الوطنية وتصفية القضية الفلسطينية.
إن وحدة الصف ومساندة المطالب الشعبية التي تطرحها المقاومة لوقف الحرب العدوانية على شعبنا، يشكلان مدخلاً جدياً لصون هذه الكيانية، واستعادة وحدة المؤسسات الوطنية الجامعة، بل، فإن الاقدام الفوري على اعادة بناء هذه المؤسسات بمشاركة الجميع، بما في ذلك حركتا "حماس" و"الجهاد"، وفي اطار موقف وطني موحد يحمي التعددية السياسية، سيقطع الطريق على المناورات الاسرائيلية من ناحية، ويضمن تحقيق المطالب الفلسطينية، بما فيها تحرير جميع الأسرى من سجون الاحتلال، وأن تبدأ حكومة الوفاق الوطني بتنفيذ أولويات الاجماع الشعبي لاعادة اعمار القطاع، واحتضان أبناء شعبنا في القطاع لمنع تمرير مخططات الاحتلال من خنقهم تمهيداً لتهجيرهم . والسؤال الثقيل على قلوب جميع الفلسطينيين خاصة الذين يكتوون بنار العدوان، وما يخلفه من كارثة انسانية هو: لماذا الاحجام عن الاسراع بهذا الأمر الذي يعتبر الرافعة الوطنية لوقف الحرب الهمجية، وليس فقط معالجة آثارها الكارثية ؟