ما بين الماضي والحاضر تبدلت السياسة الهندية تجاه القضية الفلسطينية من النقيض إلى النقيض، وتحوّل دعم نيودلهي لشعب يرزح تحت الاحتلال إلى دعم للاحتلال نفسه؛ دعم لم يكتفِ بأبعادٍ سياسية واقتصادية، بل وعسكرية أيضا. فكيف حدث هذا؟ ولماذا؟
ففي 1947 صوّتت الهند ضد تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانت أول دولة غير عربية تعترف بـمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا وشرعيا للشعب الفلسطيني في 1974، كما كانت من أوائل الدول التي اعترفت بدولة فلسطين في 1988، ورغم أن الهند اعترفت بإسرائيل في 1950، فإنها لم تقم علاقات دبلوماسية معها حتى 1992.
دعم سياسي
لكن على خلاف كل ما سبق، سارعت الهند إلى تقديم دعم سياسي سريع وكبير لإسرائيل بمجرد تنفيذ عملية طوفان الأقصى، التي شنتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وبعد ساعات فقط كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي من أوائل زعماء العالم الذين أدانوا هذا الهجوم، وهو موقف تبناه -كذلك- وزير خارجيته سوبرامانيام جايشانكار زاعما أن "الهند قد تواجه المصير ذاته إذا لم تقف في وجه التطرف"، حسب قوله.
وتماشيا مع موقف الدعم غير المشروط لإسرائيل، امتنعت الهند عن التصويت لصالح وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة في الأمم المتحدة في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وقد انعكس هذا التأييد على موقف القوميين الهندوس المتطرفين الذين شنّوا حملة لنشر معلومات مضللة على مواقع التواصل بشأن ما يحدث في قطاع غزة، لصالح الرواية الإسرائيلية -حسب ما كشف تقرير لموقع "ذا ديبلومات"- وذلك بهدف الترويج لخطابات معادية للإسلام تستهدف الأقلية الهندية المسلمة.
كما سمحت السلطات الهندية بالتظاهرات الداعمة لإسرائيل في مختلف أنحاء البلاد، في مقابل قمع الاحتجاجات الداعمة للفلسطينيين.
عمالة هندية
ورغم اشتداد الحرب، مع ما يمثله ذلك من خطر على حياتهم، فإن أعداد العمالة الهندية التي تقصد إسرائيل في ازدياد، خاصة في قطاع البناء، بعد أن تسببت الحرب في رحيل آلاف العمال الآسيويين، وتعبئة كثير من جنود الاحتياط الإسرائيليين، وإلغاء تصاريح العمل لأكثر من 130 ألف عامل فلسطيني.
ويشير رئيس مركز لكناو للتدريب الصناعي راج كومار ياداف إلى أن مكاتب التوظيف الإسرائيلية تبحث الآن عن 10 آلاف عامل بناء على الأقل، برواتب شهرية تصل إلى 140 ألف روبية (نحو 1688 دولار)، مشيرا إلى أن هذا البرنامج يحظى بدعم السلطات الهندية.
وفي تحقيق مطول نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية قبل أيام، قالت إن ملايين الهنود يحلمون بالظفر بتأشيرة عمل في إسرائيل بفضل التحالف الوثيق بين رئيس حكومتهم ناريندرا مودي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكن على حساب القوت اليومي لعشرات آلاف العمال الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل من سوق العمل.
وتابعت أنه رغم البرد القارس يصطف مئات تتراوح أعمارهم بين 24 و46 عاما في طوابير طويلة يلوحون بسيرهم الذاتية، وكلهم يأملون في الفوز بتأشيرة عمل في إسرائيل.
والمثير في هذه العملية أن خبراء إسرائيليين يشرفون على الاختبارات في الهند ويختارون المرشحين، حسب القائم بأعمال السفارة الهندية في تل أبيب.
ومن الهند، كتبت وزيرة النقل الإسرائيلي ميري ريغيف على منصة إكس، الأسبوع الماضي أن إسرائيل تريد تخفيف اعتمادها على العمالة الفلسطينية.
وقبلها بشهر، حث نتنياهو نظيره الهندي على تطبيق اتفاق 2023 الذي يسهل توظيف 40 ألف هندي في قطاعي البناء والتمريض.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت ولايتان هنديتان هما هريانا وأوتار براديش فتح 10 آلاف وظيفة أمام بعض التخصصات، في حملة رُوّج لها على نطاق واسع في قنوات موالية للحكومة، وتحدث كثير منها عن يد العون التي على الهند مَدُّها للحليف الإسرائيلي.
لكن الأهم في هذه الحملة كان التصريح بأن الهنود المسلمين عليهم ألا يكلفوا أنفسهم عناء التقدم إلى المناصب المعلن عنها، ما يعني أنه سيجري استبعادهم.
وفي السياق، قالت صحيفة غلوبز الإسرائيلية المتخصصة في الاقتصاد إن دفعة تُقدّر بألف عامل من الهند وصلت مؤخرا كتجربة في طليعة الموجة الأولى من خطة لجلب ما لا يقل عن 65 ألف عامل.
مرتزقة على جبهة القتال
ومع تواصل الحرب الإسرائيلية المستعرة على قطاع غزة، كان مثيرا للانتباه اتهام أستاذ القانون بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، خالد أبو الفضل، هنودا هندوسا بالقتال في صفوف قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وقال أبو الفضل إن الجنود الهندوس يسهمون في المجازر والمذابح التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، مشيرا إلى أن "القوميين الهندوس يحتفون صراحة بما يفعله الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينيين".
وهنا يؤكد رئيس تحرير صحيفة ملي غازيت الهندية، ظفر الإسلام خان، أن هناك نحو 215 هنديا يقاتلون مع الجيش الإسرائيلي، حسب تقارير نشرتها الصحافة الهندية.
ويوضح خان أن الصور التي تنشرها إسرائيل تظهر أن هؤلاء الهنود من شمالي شرق الهند الذين ادعوا أنهم من قبيلة "بني منشيه" اليهودية البائدة، وقد تهوّد آلاف منهم وهاجروا إلى إسرائيل في السنوات الأخيرة.
وفي حين يشير خان إلى ما يصفها بالمبالغة الكبيرة من جانب إسرائيل حول مشاركة الهنود في صفوف جيشها الذي يحارب في غزة، "في محاولة لإظهار أن العالم يقف مع إسرائيل"، إلا أنه يشير -أيضا- إلى أن أعدادا كبيرة من الهنود أعربوا عن رغبتهم في الذهاب إلى إسرائيل "لقتال حركة حماس"، فضلا عن تأييد هندوسي كبير لدولة الاحتلال على شبكات التواصل.
وتسابقت الصحف الهندية للحديث عن استعداد الهنود للقتال إلى جانب إسرائيل. وتقول صحيفة "الهند اليوم" إن "الأشخاص من الهند ليسوا مسلحين ومستعدين للحرب ضد حماس فحسب؛ بل إنهم جاءوا -كذلك- في خط الهجوم المباشر لمواجهة الإرهابيين".
وتنقل الصحيفة عن دبليو إل هانغسينغ، رئيس الهيئة العليا لبني منشيه بالهند "نحن أقلية ضئيلة عالقة في الاضطرابات في ولاية مانيبور، والأمل الوحيد للمجتمع هو الهجرة إلى إسرائيل".
يهود بني منشيه
ويقدّر عدد أفراد مجتمع "بني منشيه" في الهند بقرابة 10 آلاف و500 شخص، وهم يعدّون أنفسهم من نسل "منشيه"، إحدى القبائل العشر التي طُردت من فلسطين قبل أكثر من 2700 عام على يد الآشوريين.
ويقول آساف -وهو أحد أبناء القبيلة- إن أبناء منشيه في ولايتي ميزورام ومانيبور "يعقدون جلسات صلاة خاصة على ضوء الشموع في معابدهم اليهودية كل ليلة من أجل الحماية الإلهية لأولئك الموجودين في إسرائيل".
ووفقا لهانغسينغ، فإن حوالي 200 من بني منشيه يخدمون بنشاط في الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى 200 جندي احتياطي تم استدعاؤهم للخدمة بعد الهجمات التي شنتها حماس، مع تأكيده أن الأعداد الدقيقة لأبناء منشيه الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي ليست متاحة للجمهور.
وتؤكد صحيفة جيروزاليم بوست، أنه استُدعي هؤلاء إما لأداء واجبات عسكرية نشطة وإما احتياطية، فضلا عن تطوع بعضهم، وذلك نقلا عن منظمة "شافي إسرائيل"، وهي منظمة مقرها القدس تهتم بـ"تعزيز علاقات إسرائيل مع مجتمعات الشتات اليهودي في جميع أنحاء العالم"، كما تُعرّف نفسها.
ومن بين هؤلاء الجنود، 75 جنديا من المهاجرين الجدد من الهند الذين تطوعوا للخدمة العسكرية بعد طوفان الأقصى، بينما استُدعي 140 للخدمة العسكرية من مستوطناتهم في جميع أنحاء إسرائيل.
ووفقا لـ"شافي إسرائيل"، فإن 99% من جميع الرجال في سن الخدمة العسكرية الذين هاجروا من الهند انضموا إلى حرب إسرائيل على غزة، في حين التحقت 90% من النساء بالخدمة الوطنية.
ويؤكد مؤسس منظمة "شافي إسرائيل" مايكل فرويند أنه "منذ اندلاع الحرب، تلقت المنظمة مئات الطلبات من أفراد مجتمع بني منشيه يطلبون الهجرة إلى إسرائيل على الفور". وأضاف "ليس هذا فحسب، إنهم يطلبون الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي على الفور للقتال جنبا إلى جنب مع إخوتهم وأخواتهم".
ويشير تقرير جيروزاليم بوست إلى أن نتانيل توثانغ (26 عاما)، وهو من بني منشيه، أصيب بشظية صاروخ أطلقه حزب الله اللبناني على شمال إسرائيل، حيث كان يخدم في لواء غفعاتي.
لكن صحيفة "نيوز 9" الهندية تحدثت عن مقتل 4 هنود يقاتلون مرتزقة في الجيش الإسرائيلي الذي يحارب في غزة.
ما الذي تغيّر؟
ولمحاولة فهم أسباب التغير الكبير في السياسة الهندية تجاه فلسطين، فإن أغلب التحليلات تشير إلى عاملين أساسيين؛ هما:
- صعود القومية الهندوسية
يقول أشوك سوين رئيس قسم أبحاث السلام والصراع في جامعة أوبسالا في السويد، إن القومية الهندوسية آخذة في التنامي منذ وصل مودي إلى سدة الحكم، رغم اعتقاد الباحث أن غالبية الهنود ما زالوا يدعمون النضال الفلسطيني من أجل الاستقلال.
كما أن وسائل الإعلام الهندية تتأثر إلى حد كبير بالحكومة القومية الهندوسية، ولذلك فإنها تميل إلى تبني خطاب أكثر عدائية تجاه فلسطين.
- العداء للإسلام
ويشير أشوك سوين إلى أن حكومة ناريندرا مودي تعتقد أنه طالما استمرت الحرب في غزة، فسيُوجه اهتمام وسائل الإعلام نحو إدانة حماس، "وهي فرصة لزيادة تأجيج الإسلاموفوبيا داخل المجتمع الهندي".
أما الصحفية والباحثة البارزة والمقيمة في دلهي، باميلا فيليبوز، فتوصلت إلى أن الحكومة الهندية تعتقد أنها يمكن أن تستفيد من تصوير حماس "ممثلة للإرهاب الإسلامي" ودعمها لإسرائيل جزء من توجهها السياسي المناهض للإسلام.
ويرى سوين قواسم مشتركة كبيرة بين الصهيونية والقومية الهندوسية؛ "فكلا الأيديولوجيتين تشتركان في أن أهدافهما توسعية وإقصائية".
وتصف كل من الحركتين الهند وإسرائيل بأنهما كانتا في الأصل حضارتين هندوسية ويهودية، على التوالي، ولكنهما "لُوثتا" من الغرباء، وعلى وجه التحديد المسلمين، ويتلخص طموحهما الآن في إعادتهما إلى مجدهما السابق كونهما دولتين هندوسية ويهودية على التوالي.
وفي هذا السياق، تشير صحيفة لوموند الفرنسية إلى أن بعض المتطرفين الهندوس أبدوا استعدادهم لحمل السلاح إلى جانب الإسرائيليين. وأعلن سفير إسرائيل بالهند ناؤور جيلون بفخر أنه قادر على تشكيل جيش من المتطوعين الهنود.
وهكذا كان الدين والقومية و"العدو المشترك"، فضلا عن الاقتصاد والشعبوية، أسبابا في تحويل بوصلة الهند تجاه قضية شاركت طويلا في مناصرتها.
المصدر : الجزيرة