بالرغم من إجماع الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية على أنّ بنيامين نتنياهو عاد خاليَ الوفاض من واشنطن بعد زيارة الاستدعاء العاجل، وبالرغم من أن خيبة الأمل التي عاد بها كانت معلنة، وبادية على وجه رئيس وزراء دولة الاحتلال، إلّا أنّ بعض الأوساط السياسية والإعلامية، العربية منها وأحياناً في إطار أوساط فلسطينية معينة ما زالت تكابر بمحاولة «إخفاء» هذه الحقيقة لغايةٍ في نفس يعقوب، وليس من باب الحيطة والحذر، لأنّ الحيطة والحذر واجب على كلّ حال، ومسألة ضرورية طالما نتحدث عن العلاقة الأميركية الإسرائيلية، والتي ثابتها الأوحد هو الالتزام الأميركي بثلاثِ قضايا لا مجال إلّا بالتمسُّك الكامل بها.
الأولى، الالتزام المطلق بالدفاع عن أمن الدولة العبرية بصرف النظر عن طبيعة التهديد، وعن مداه، وعن مصدره، وبصرف النظر عمّا إذا كان داخلياً أو خارجياً، وبصرف النظر، أيضاً، فيما إذا كان هذا التهديد صغيراً أو كبيراً، وجودياً أو إستراتيجياً، سياسياً كان أو اقتصادياً واجتماعياً، وحتى ثقافياً، وبصرف النظر، أيضاً، فيما إذا كان مثل هذا التهديد حقيقياً وداهماً، أم كان وقائياً، ومن باب الاحتياط والحذر.
والثانية، هي الالتزام الأميركي بالتفوّق الإسرائيلي على كلّ المحيط، بصرف النظر فيما إذا تعلّق الأمر بالسلاح أو تكنولوجياته، أو حتى بكلّ مستويات التطوّر في كل المجالات الأخرى، وتوفير كلّ مقومات استمرار هذا التفوق في كل المجالات المتاحة.
أمّا الثالثة، فهي توفير الحماية السياسية والدبلوماسية والإعلامية التامّة، وبما يخدم المصالح الإسرائيلية المباشرة، ويوفّر من شبكات ومؤسّسات تعمل بهدف تأمين مثل هذه الحماية، ليس فقط في/ وعلى مستوى كل مؤسسات الأمم المتحدة، ومؤسسات القانون الدولي، وإنّما تمتد المسألة لتصل إلى العمل المثابر والجاد، وبما تمتلك الدولة الأميركية من إمكانيات وقدرات على مستويات شاملة من قنوات ووسائل ووسائط في عموم أنشطة المجتمعات المدنية في أميركا، وبلدان «الغرب»، وكذلك في أوساط كثيرة على مستوى كل المنتديات واللقاءات والاجتماعات التي تعمل من خلالها المجتمعات المدنية في كل مكان.
في إطار هذا كله يمكن أن تظهر التباينات بين الموقف أو بالأحرى المواقف الأميركية والإسرائيلية حول مسألة هنا وأخرى هناك، في مرحلةٍ معينة أو أخرى، في ظرفٍ عاجل أو طارئ، أو في ظرفٍ خاص، وذلك حسب نوعية الإدارة الأميركية، وطبيعة الموضوعات، وعلاقة تلك الموضوعات بالاعتبارات الأميركية الخاصة، وحسب طبيعة ونمط وتركيبة «الائتلاف الفاشي الحاكم» في دولة الاحتلال، وحسب أولويات هذا «الائتلاف».
تكاد تكون هذه المقدمة الطويلة من قبيل البديهيات السياسية في فهم العلاقة الأميركية الإسرائيلية، وبصورةٍ مبسّطة لأن العلاقة هي في الواقع أكثر تعقيداً من زاوية واحدة على الأقلّ.
هذه الزاوية هي أنّ دولة الاحتلال ليست مجرّد حليف خاص، وفريد واستثنائي، فهذه المسألة هي، أيضاً، تكاد تكون من قبيل البديهيات المعروفة والمشخّصة، وإنما هي عامل داخلي أميركي على خلاف أي حليف آخر لأميركا.
أقصد أنّ دولة الاحتلال، بكثير من المعاني والمؤشّرات تملك من وسائل التأثير على النظام السياسي بمجمله في الولايات المتحدة ما لا تملكه أيّ دولة، وهي لاعب كبير في التأثير على مؤسّسات الكونغرس والرئاسة، إضافةً إلى التأثير الفعّال داخل أوساط مالية وإعلامية وثقافية واسعة وكبيرة وممتدّة.
المهمّ في ضوء ذلك كلّه هو أنّ نقاشاً معيّنا بدأ يظهر على سطح المعالجات السياسية في فهم هذه العلاقة بعد تسلّم ترامب لصلاحياته في الانتخابات الأخيرة، مع أنّ مثل هذا النقاش كان قد أُثير بصورةٍ أوّلية أثناء الفترة الأولى من رئاسته.
وجوهر التساؤل هو: هل أنّ العلاقة الأميركية الإسرائيلية في ظلّ ما تمثّله «الترامبية» من اتجاهات وتوجّهات جديدة في كثير من المظاهر والنزعات، وفي إطار ما بات يتبلور منها على مستوى الإستراتيجيات.. هل ستغيّر في معادلة العلاقة المعهودة أم لا؟ وما هي حدود هذا التغيّر، وبأيّ اتجاهات؟
أغلب الظنّ أنّ مناقشات من هذا النوع باتت ضرورية بالنسبة لنا كفلسطينيين، لأنّ من مصلحتنا إدراك هذه الأبعاد، خصوصاً وأننا نتعرّض لحربٍ شاملةٍ تهدف إلى تصفية قضيتنا الوطنية، وتحاول دولة البطش والاحتلال بالاستناد أوّلاً، وقبل كل شيء إلى هذه العلاقة بالذات المضيّ قدماً في إستراتيجية التصفية بأشدّ الأشكال توحُّشاً وإجراماً، وبغطاء أميركي كامل، وبحدود زمنية تكاد تكون مفتوحة، وبأشكالٍ من الإبادة تكون بلا أيّ ضوابط أو قيود.
وجوهر الأمر في مثل هذه البدايات من المناقشة يكمن في الإجابة عن السؤال الآتي: هل الانقلاب الذي قام به ترامب في الواقع الأميركي، وما زالت فصوله تتوالى فصلاً بعد آخر، ومفصلاً بعد مفصل، يمثّل أو يمكن أن يمثّل أو يشكّل أرضيةً كافية للإخلال بتلك المعادلة، وتلك الثوابت في العلاقة بين أميركا ودولة الاحتلال؟ تماماً كما يكمن كذلك في فهم طبيعة الانقلاب الذي قام به نتنياهو، وحكومته الأقرب إلى الفاشية السّافرة، وتتوالى فصول ومفاصل هذا الانقلاب تباعاً، وعلى قدمٍ وساق!
دون أن نعالج درجة التغيّر الذي حدث، ويمكن أن يحدث في ضوء هذين الانقلابين لن يتسنى لنا على الأغلب الوصول إلى الفهم العميق والضروري لمآلات تلك العلاقة في صورتها الجديدة.
وفي جواب أوّلي عن عنوان هذا المقال فإنّ ترامب هو الذي طوّع نتنياهو، وعلى الأغلب تراجع إلى حدّ كبير تأثير الجناح العنصري والفاشي في الضغط على مؤسّسة الرئاسة الأميركية، لأن هذه المؤسّسة هي أصلاً في تكوينها الجوهري مؤسّسة صهيونية أو متصهينة بالكامل، وقد تمّ اختيارها من ترامب في ظلّ معادلات من التوازن المدروس وفق الوعود الانتخابية، ووفق شروط الداعمين له، ووفق القاعدة الانتخابية، ووفق التوجّهات العامّة، له، أيضاً.
المسألة ليست هنا، والقضية كلّها ليست هنا.
الانقلاب «الترامبي» موضوعياً لا يعير نفس الوزن الذي كانت تعيره الإدارات السابقة، وذلك لأن «الترامبية» في الواقع لم تعد تهتمّ بالمكوّنات التقليدية للدولة العميقة، ولا حتى بالقطاعات الاقتصادية «المعولمة»، لأنّ هذه القطاعات بالذات ليست في إطار قطاعات التطوير التي يسعى ترامب لإعادة بنائها أو إنعاشها، والتي فيها يتركّز بعض كبار المموّلين الذين ينتمون لـ»اليمين» الإسرائيلي، ويؤيّدونه من النخب الأميركية.
والانقلاب «الترامبي» حتى وإن ظهر وكأنه منسجم من الناحية العقائدية مع أطروحات «اليمين الفاشي» في دولة الاحتلال، لكنه لا يمثل امتداداً اقتصادياً له، أو لا يمثّل «اليمين الفاشي» في البعد الاقتصادي جزءاً أو امتداداً للقواعد الاقتصادية الجديدة في توجّهات «الترامبية».
أقصد أنّ ثمّة مفارقة وانفصاماً اقتصادياً، وسياساتياً من زاوية أولويات هذه السياسات في الحالتين على الرغم مما تبدو عليه الأمور من «انسجام» من الناحية الثقافية والأيديولوجية.
لا أدّعي أنني أملك تفسيراً مقنعاً لهذا الانفصام، ولا أدّعي، أيضاً، أن مثل هذا الانفصام له تفسيراته المقنعة من زاوية التلازم المفترض بين ما هو اقتصادي وما هو أيديولوجي، لكنني أرى مثل هذا الانفصام قائماً في الواقع.
يمتدّ السؤال لرؤية إن كان هناك مثل هذا الانفصام يسري على منطلقات «اليمين» في أوروبا و»اليمين» الأميركي بقيادة ترامب، ويسري مثل هذا الانفصام على العلاقة ما بين «اليمين» الإسرائيلي نفسه و»اليمين» في أوروبا، وفيما إذا كان القاسم المشترك الأعظم هو الانقلاب على النيوليبرالية، وعلى «إنهاء» وتصفية حقبة العولمة الجديدة التي تطوّرت بصورةٍ صاروخية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد أن تحوّلت العولمة عملياً، إلى أداة النيوليبرالية أو ذراعها الضارب.
أقصد أننا نعيش في مراحل الانقلاب على النيوليبرالية، وفي المراحل الأولى فقط، وأننا نعيش حقبة تصفية العولمة باعتبارها أداة للتحكُّم والسيطرة النيوليبرالية والأميركية تحديداً، وليس العولمة باعتبارها ظاهرة موضوعية بدرجةٍ معينة، كانت وما زالت وستبقى، وأنّ من السابق لأوانه ــ بسبب أننا لم نشهد بعد البعد الزمني المطلوب لإنضاج الظاهرة، وكأيّ ظاهرة اجتماعية ــ أن نحصل على خارطة واضحة من مصفوفات الانسجام ما بين القاعدة الاقتصادية والطبقية ــ أي البناء التحتي ــ وما بين منظومات ومصفوفات الأيديولوجي والثقافي في البناء الفوقي.
لهذا تبدو الأمور منفصمة، وغير منطقية، ولهذا فإنّ اعتبارات «الترامبية» وحدها هي التي تقود المركب، ونتنياهو لا يحظى في قيادة هذا المركب حتى بموقع مساعد ثانٍ أو ثالث للربّان.
هرب وتهرّب ترامب من الرغبة الجامحة عند نتنياهو لشنّ الحرب المشتركة على إيران، وهرب من «استثناء» دولة الاحتلال من سياسات الحمائية، ولكنه أعطاه ربّما عدة أسابيع جديدة من الإجرام في القطاع، وجامل نتنياهو بعدم الإجابة عن سؤال «حلّ الدولتين».
عاد نتنياهو للمرّة الأولى في تاريخه بخيبة أملٍ كبيرة، وأظنّه قد فهم الآن أنّ زمانه قد انتهى، وأظنّهم في كل دولة الاحتلال قد فهموا ذلك جيّداً.