من سهل البطوف «صعدت» الى الناصرة. خَدَر معاكس للأحاسيس المسبقة. دائماً تخيّلت للعودة إحساس الهبوط. ربما قلت: للعودة قانون الجاذبية. ربما قلت: للمنفى قانون النبذ المركزي.. أو، ربما هدّني تعب التحليق أربعين عاماً. «غطّ الحمام. طار الحمام».. و»الانسان طير لا يطير»! وحسناً، أنني صعدت من ذلك السهل تلك المنحنيات، معارج قصيرة، فليكن للهبوط خَدَرُ معراجي الأول الى مدينة البشارة. شيء يضغط في أذنيك قبل الهبوط وبعد الصعود. وشيء آخر يوسّع فضاءً بين قلبك وشغاف القلب! هذا هو «الشيء»، إذاً؛ أن يكون للصعود خدر الهبوط. أضاليل حواس لأنك كلك عين جميعك قلب. وما أنت ابن آدم إلاّ سليل الهبوط الأول، وما أنا الفلسطيني إلاّ ابن الخروج الكبير. خروج هو كالطرد والنبذ. لآدم قصتنا جميعاً، ولي مع الهبوط - الصعود قصتي الأخرى تماماً. هذا هو الصعود هبوطاً الى إلفة المكان، وفي الصدر هرّ كسول.. وللسان الذي تلعثم كثيراً بين «أخي» و»أخوي» أن يستريح هو الآخر: «خيّا». هذه هي لهجتي الأم، وهنا - في دكاكين شارع بولص السادس - تستطيع أن تحكي لكنتك الفلسطينية الأم: «خيا، خيتا». هنا، لن «يُلاوقُكَ» أحد، فلو رأيتَ جدولاً يسيل لقلتَ ببديهة البساطة: الميّ طايحة». وكم في غوطة دمشق «لاوَقَنا» أولاد فلاّحيها في الشارع أو في صفوف المدرسة: كنا نهتف: «النهر طايح» وكانوا «يلاوقوننا» قائلين: بل «النهر جاري»، وما كنا نحتمل من أحد أن «يلاوق» لسانه على لساننا.. وإلاّ، تطايرت الحجارة في «طوشة» أولاد أخرى، كنا ننتصر بها دائماً.. غير أن صفة «النهر الطايح» توارت عن ألسنتنا.. الى ان صعدت الناصرة! عدت الى فلسطيني من بوابة الجسر على النهر، لكن بقيت في الروح «لخمة» سؤال عن فلسطينيّتي في اللسان، وفي طريقة ارتداء «الحطّة البيضاء» كما يرتديها أبي، وفي زِيّ فلاّحات الجليل الأكثر بساطة كما زيّ أمي. في المدن المختلفة (حيفا - يافا - عكا) ليس للروح مرفأ العائد، وفي الناصرة كان عليّ الصعود حتى أهبط لمرفأ العائد.
بين «بشارة» صغيرة معتّقة بعبق قرون من البخور، وأخرى «بشارة» عملاقة.. كان الطواف حتى يكون لهذا الشيء شيء من «تركيب العطور». سعيت بين كنيستي البشارة. دخلت «كيوسك» قرب كنيسة النبع الذي لا يكفّ عن النبع. سألت عن جريدة «الأيام» وجريدة «القدس». سجلت فوق قبة الصخرة (المرسومة في الجريدة) عبارة ذات رنين، كلمات تبريك بالست مريم. ضاعت الجريدة ومعها العبارة. سأعود يوماً لأنسخها، وستكون تلك العودة «هبوطاً». عشرون عاماً اشتغلوا حتى سَمَقَتْ قبّة كنيسة البشارة الجديدة.. فكانت كنيسة للرب وللعالمين أيضاً، فعلى طول جدرانها أيقونات عملاقة من روما ومن تايبيه؛ من بوليفيا ومن الولايات المتحدة.. ومن روسيا وحتى جنوب أفريقيا.. ولكل حاج أن يجد بلده في كنيسة الرب والعالمين هذه.. والناس تذهب - تصعد حجيجاً الى الناصرة؛ والناصرة تلهث أنفاسها من الركض الى خط نهاية السباق مع العام 2000، فيكون شارع بولص السادس ورشة. أمّا كنيسة البشارة الكبيرة فهي نموذجية لصلاة منتصف الليل بين عام وعام؛ بين قرن وقرن.. وبين ألفيّة وألفيّة. هل هي أكبر كنائس العالم كما يقال، أم هي أكثرها رحابة كما تقول العين بفضل ما أبدع عقل ذلك المهندس في تطويع أعمدة حجرية متشابكة، واختزالها بأعمدة من الخرسانة المسلّحة، التي تحسّ أن عريها مرآة عري ابن مريم على صليبه. عارية كالعظام.. وقوية كالعظام.
من كنيسة لا تشابهها كنيسة، حتى «المهد» و»القيامة» و»كاتدرائية فاسيلي» الموسكوبية و»نوتردام» الفرنسية.. من كنيسة البشارة الى مطعم نبع الست مريم الذي لا يشابهه مطعم أو «مسعدا» أو «رستورانت». سألنا عن أفخر نبيذ نصراوي أو جليلي، فجاءنا مع أفخر مازّة تضاهي مازوات «زحلة» و»بحمدون». بعد الرشفة الأولى كانت الروح قد حلّقت.. وعلى ورقة هي فوطة الطعام، كتبت: للأسبوع سبعة أيام أعيشها ثمانية هل عشتها أنت ستة؟ من عاشها خمسة لم يولد من يعيشها تسعة يموت قال صاحبي «أبو إبراهيم»: «بَسّ يا حسن». فأضفت: إذا القلب من ذهب فللزمن وليمة من الصدأ.