نحو قطيعة مع الفكر السياسي الفلسطيني السائد

images (1)
حجم الخط
 
خلال نصف القرن الماضي تحكّمت بأذهان الفلسطينيين، وبنمط تفكير نخبهم وكياناتهم السياسية، مجموعة من الأفكار، من أهمها: اعتبار أن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، والاعتقاد بأن الكفاح المسلح هو الطريق الرئيس والحتمي للصراع مع (إسرائيل) والقضاء عليها، وأن تحرير فلسطين، بمعنى تحرير الأرض من النهر إلى البحر، بمثابة الهدف الذي لا محيد عنه.
 
المشكلة أن هذه الأفكار أضحت بمثابة بديهيات أو يقينيات أو مقدسات أخرى، يحرم المسّ بها، أي مناقشتها ونقدها وتجاوزها، على رغم أنها تحتاج أكثر من أي شيء آخر للنقاش، بخاصة أنها لم تثبت صدقيتها، في مسيرة الفلسطينيين الكفاحية.
 
الفكرة هنا لا تتعلق بمشروعية هذا الطرح أو ذاك، ولا بعدالته، وإنما بمدى ملاءمته للواقع، ولأحوال الفلسطينيين، وقدراتهم وإمكاناتهم، كما بانعكاساته أو بنوعية تأثيراته فيهم، وهي إجمالاً كانت تأثيرات سلبية ومضرّة.
 
هكذا، فإن الحديث عن مركزية قضية فلسطين لم تفـــد الفلسطينيين، ولا قضيتهم، ولا حركتهم الوطنـــية، لأن الأنظمة المعنية جعلت من ذلك مجرد وسيلة للتوظيف السياسي، في تبرير شرعيتها الداخلية، ولتعزيز مكانتها الإقليمية. وقد شهدنا أن الأنظمة الاستبدادية برّرت مصادرتها حقـــوق مواطنــيها وحرياتهم، وتحكمها بمواردهم، بدعوى «الأمن القومي»، ومتطلبات الصراع مع (إسرائيل). حتى أن هذه المسألة كانت ورقــــة ابتزاز في العلاقاـــت البينية العربية، ووسيلة للمــــزايدة، من دون أن ننسى أن آخر حرب عربية- إسرائيلية حدثت قبل أكثر من أربعة عقود، وأن الحدود الـــعربية مع (إسرائيل) هي في غاية الهدوء. 
 
الأنــــكى أن هــذه المقولة التي تظهر حرص الأنظــــمة على قضية فلسطين، أفضت إلى مرمطة شعبها، إلى درجة أن ثمة أنظمة تطبّع مع (إسرائيل) ولا «تطبّع» مع الفلسطينيين، وثمة بلدان يدخلها الإسرائيليون في حين لا يحلم الفلسطينيون بدخولها. هكذا حُرِموا من جنسية ومن جواز سفر ومن حق المواطنة (باستثناء الأردن)، وتم التنكيل بهم، بدعوى الحفاظ على هويتهم وقضيتهم، كأن «وطنية» الفلسطينيين لا تشتغل إلا بامتهان كراماتهم والحطّ من أحوالهم!
 
وفي خصوص فكرة الكفاح المسلح فإن المشكلة تكمن في الانفصام عن الواقع، إذ إن النظام العربي لا يمكن أن يسمح بمقاتلة (إسرائيل)، لأن هذا يتناقض مع واقعه كنظام يحتكر السلطة، كل في بلده، ما يعني أن مرحلة السماح بالكفاح المسلح الفلسطيني كانت لغايات أو لتوظيفات لا علاقة لها بالصراع ضد (إسرائيل)، وأن هذا ارتبط مع السيطرة على حدود هذا الصراع، بحيث شهدنا أن الأمر كانت له علاقة بالصراع الإقليمي، وهو ما تعرّضت له التجربة الفلسطينية في لبنان لاسيما منذ 1976 إلى 1982. 
 
فوق ذلك فإن الفلسطينيين لم يسألوا أو لم يبالوا بحقيقة أن إمكاناتهم الذاتية لا تتيح لهم توسّل الكفاح المسلح، ولا تحمّل تبعاته، بدليل أن فلسطينيي 48 لم يذهبوا إلى هذا الخيار، ولا فلسطينيي الضفة (قبل الانتفاضة الثانية 2000) ولا فلسطينيي غزة (إذ استثنينا بعض الجماعات المرتبطة بمصر أيام عبد الناصر)، ولا الفلسطينيين في سورية ولبنان الذين كانوا بالكاد يتدبّرون أمور حياتهم. والقصد أن الكفاح المسلح هو وليد عمل سياسي، ووليد الفصائل، وأنه ظل مرتهناً، بأشكاله ومستوياته، لرضا الدول الداعمة، مالياً وتسليحياً وسياسياً. 
 
والمعنى أن الكفاح المسلح (الذي أطلقته حركة «فتح») كان وليد التوافق بين جماعات فلسطينية وبعض الأنظمة العربية، التي أرادت توظيف هذه الورقة داخلياً، وفي مجال المزايدة، لتعزيز مكانتها على الصعيد العربي، هذا مع سعيها إلى ضبط العمل المسلح، وهذا أكثر شيء فعله النظام السوري في تاريخ علاقته المتوترة مع الحركة الوطنية الفلسطينية بزعامة «فتح».
 
الأهم أن مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني، بما لها وما عليها، وبغض النظر عن التضحيات والبطولات التي سجلت فيها، لم تتمخّض عن نتائج إيجابية على مجتمعات الفلسطينيين، لا في الأردن ولا في لبنان ولا في الضفة ولا في غزة، بل إن نتائجـــها كانت كارثية ليس من ناحية عدد الشهــــداء والجرحى والمعوّقين فقط، وإنما لناحية استنزاف هذه المجتمعات وإفقارها، وتقويض استقرارها.
 
 المعضلة هنا أن الفكر السياسي الفصائلي نأى بنفسه عن نقد هذه التجربة، وهذا ينطبق حتى على الفصائل التي ذهبت نحو خيار المفاوضة والتسوية. إذ إن حركة «فتح» التي باتت في السلطة مازالت في وثائق مؤتمراتها تتحدّث عن الكفاح المسلح، على رغم كل ما مرّ في النهر(!) في حين الأجدى البحث عن طرق كفاحية بديلة، تراعي إمكانات الشعب الفلسطيني، وتضمن تنمية مجتمعات الفلسطينيين وتطورها.
 
أما هدف التحرير، وبغض النظر عن شرعيته وعدالته، فمن اللافت أن المراجعة الوحيدة له التي تمّت تمثلت في الذهاب نحو القبول بدولة في أقل من ربع فلسطين، وهذا لم ينجح، كما هو معلوم. والفكرة هنا أن الحركة الوطنية الفلسطينية وضعت ذاتها بين خيارين: إما التحرير الكامل وإزالة (إسرائيل)، وإما القبول ب(إسرائيل) وإقامة دولة في الضفة وغزة (22 في المئة من مساحة فلسطين)، أي أنها في الحالين تعاطت بطريقة رغبوية في صراعها مع المشروع الإسرائيلي، مركزة في ذلك على الصراع الجغرافي، أي على الحق في الأرض. 
 
وإذا تجاوزنا حقيقة تعذر هدف التحرير، في كل المراحل، ليس بسبب موازين القوى والمعطيات الدولية المواتية ل(إسرائيل)، وإنما بسبب هشاشة الوضع العربي وضعف الفلسطينيين، فإن ذلك تعذر، أيضاً، حتى في القدرة على اجبار (إسرائيل) على تنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها في اتفاق أوسلو (1993) المجحف والجزئي والمهين.
 
والقصة كما هو واضح لا تتعلق بالحق ولا بالعدالة وإنما بخوض الصراعات السياسية وفق الإمكانات والممكنات، لمراكمة واقع معين، وبانتظار ظهور معطيات عربية ودولية وحتى إسرائيلية مناسبة. وإلى ذلك الحين ربما كان الأجدى أكثر الاشتغال على تنمية مجتمعات الفلسطينيين، وكياناتهم السياسية، وتطوير احوالهم الاقتصادية والثقافية، بدلاً من الذهاب نحو أهداف رغبوية لم ينجم عنها إلا تآكل هذه المجتمعات وصعود (إسرائيل).
 
لا مناص للفلسطينيين للخروج من هذه الحال إلا بالقطيعة مع الفكر السياسي الفصائلي السائد والتحرّر منه، بمعنى تجاوزه، للتمهيد لصوغ رؤى وأفكار سياسية جديدة. حتى لو لم تتوافر مثل هذه الرؤى، حالياً، فإن إخفاق التجربة الفلسطينية السابقة يتطلب تحقيق مثل هذه القطيعة مع الفصائل وأفكارها.
الحياة اللندنية