"يا شاهندة وخبريني يا بوي عاللي قتل ياسين..ليلي عيني عا اللي قتل ياسين..
وعد ومكتوب علينا.. ومسَطَّر ع الجبين..نحمل دمعك يا وطني..من مصر لفلسطين".
*****
حملت حبها ودمعها من شبين الكوم، إلى فلسطين، منذ ريعان شبابها، وناضلت ضد الاستعمار، وضد الإقطاع، وضد الرجعية في آن.
ناضلت من أجل التغيير الاجتماعي، والسياسي، ومن أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، طيلة حياتها، بحماسة وحب وأمل.
مارست حرية الاختيار منذ طفولتها، حين ناضلت ضد الاستعمار، في صفوف الحركة الطلابية المصرية، وحين رفضت الزواج من ضابط اختاره أهلها، لا يربطها به توافق فكري، وارتبطت عن وعي برفيق حياتها الشهيد "صلاح حسين"، الذي وجدت فيه الرفيق والشريك والحبيب.
"لن أنسي أبداً ما كتبه أبي في الأوتوجراف الخاص بي: ابنتي العزيزة. لا تفعلي سراً ما تخشينه علناً، ودافعي عن رأيك حتى الموت".
كتب "صلاح" رسالة تعبر عن حبه وإعجابه واحترامه لرفيقة حياته:
"جاءت حبيبتي حقيقة كالأمل، جاءت ولا أدنى أثر لذلك الجهد الرائع يعلق بثيابها، لقد غسل الحب المنتصر كل شوائب الرجعية وزادها حباً، ولم يبق من الماضي غير عزيمة الإنسانية، آثرت منزلي ذو الغرفة الواحدة والأثاث الهرم على وثير العيش، إنها حقاً بداية جميلة لأناس يحبون الشعب".
وكتب يبيِّن تقديره العالي للفلاحين، وحقهم بالحرية والكرامة: "كل مائدة يوجد شيء من جهد فلاح جائع، الفلاحين النهاردة هم اللي صنعوا مصر بفائض الأثمان، منتجاتهم اللي كانت الثورة بتاخذها وتبني بها مصانع وتبني بها مدارس وتبني بها.. الفلاحين هم اللي بنوا مصر، فالفلاحين كل حاجة حلوة في بلدنا، أشيلك يا سلاحي أنا شايلك وهاهتف دائما وأنا شايلك".
ناضل "صلاح حسين" ضد الصهيونية، حين التحق بصفوف المقاومة عام 1948، وناضل ضد الاستعمار، حين التحق بصفوف المقاومة الشعبية في قناة السويس عام 1951، وحين شكل كتيبة من فلاحي كمشيش ليواجهوا العدوان الثلاثي، عام 1965، ثم ناضل ضد الإقطاع، الذي يمتصّ عرق الفلاحين، ويسلبهم كرامتهم وقوتهم وحياتهم، مدركاً أن العدو في الداخل أخطر من العدو في الخارج، ما جعله ورفاقه، يلجؤون إلى الكفاح المسلَّح.
وبعد الثورة، وعلى الرغم من إيمانه أن الثورة التي قامت للقضاء على الإقطاع سوف تجعل الفلاحين يستغنون عن السلاح؛ إلاّ أنهم اضطروا لاستخدامه مرة أخرى، بعد أن نشطت الثورة المضادة، واستخدمت السلاح، واستطاعت اغتياله، بعد سلسلة من المعارك، في الرابع من نيسان، عام 1966؛ الأمر الذي جعل الفلاحين يؤمنون بضرورة استمرار النضال، لمواجهة الثورة المضادة، التي تحاول استرداد ما حصلوا عليه من حقوق، من خلال قانون الإصلاح الزراعي، الذي نصَّ على تحديد الملكية الزراعية للأفراد، وأخذ الأرض من كبار الملاك، وتوزيعها على صغار الفلاحين المعدمين.
*****
كي تحدث "شاهندة مقلد" التغيير؛ عملت وسط الناس، معهم ومن أجلهم، وحين اغتيل رفيق حياتها؛ قابلت الفجيعة بدمعة وثوب أسود، وبعزيمة وتصميم على استكمال ما بدأه الشهيد مع رفاق النضال: منتصبة القامة؛ شاركت في حمل نعش "صلاح، وهتفت مع الفلاحين: "إحنا ها نكمِّل المشوار"، وحين وقعت مغشياً عليها، قبل الوصول إلى القبر؛ واصل الفلاحون هتافهم: "ما تعيَّطيش يا شاهندة..إحنا اللي هناخد بالثار..صلاح وراك ثوّار..وإحنا اللي هانكمِّل المشوار".
"هو.. هو يا صلاح.. نفس الخط يا صلاح، مين يقول إنه جوَّه القبر راح.. قولوا دمه في المصانع.. قولوا دمه في الغيطان.. في الغيطان اللي اتردم فيها جدودنا الفلاحين.. اللي ضحُّوا وعاشوا أجيال محرومين.. دمّه نور.. دمّه نار.. دمّه نور حقد السنين الصابرة.. دمّه نار لهب القلوب الثائرة.. طار صلاح هو طار كل اللي زيّه في سيناء وسوريا.. والقنال والقدس والضفة الأبيّة.. دمكم مش راح يضيع، والسلاح هو اللي لازم يترفع.. السلاح يا مصر.. السلاح للنصر".
*****
عرفتها منذ نهاية السبعينيات، عبر نشاطات الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية بالقاهرة، وعبر المشاركة في النشاطات المناصرة للقضايا العربية كافة.
حرصت "شاهندة" أن تكون بيننا ومعنا، في نشاطنا الثقافي والسياسي والإعلامي، كلما استطاعت.
ومن اللافت والدالّ ارتداؤها الثوب الفلسطيني، بعد أن خلعت ثوب الحداد الأسود، حيث حرصت على ارتدائه في المناسبات الفلسطينية والمصرية، وأثناء مقابلاتها مع محطات التلفزة، وأثناء تصوير فلم "أربع نساء".
جاءني صوتها حزيناً، عبر الهاتف، حين اتصلت بها لتأكيد مشاركتها في تأبين الوالدة في آذار 2013. اعتذرت قائلة: رحل "عبد المجيد الخولي"، ورحلت "عصام عبد الهادي"، كيف يمكن للقلب أن يحتمل؟!
كان "عبد المجيد" أحد الشباب الذين رعتهم شاهندة، ممن واصلوا النضال ضد الإقطاع، بعد استشهاد "صلاح حسين"، وكانت علاقتها بالوالدة علاقة نضالية وإنسانية وطيدة.
احتملت شاهندة كثيراً وطويلاً، احتملت استشهاد زوجها، ثم شقيقها، في حرب الاستنزاف عام 1970، ثم ابنها الأصغر، في ظروف غامضة في موسكو.
اختارت يوم 2 حزيران 2016؛ لتحمل دمعها وحبها، وترحل؛ لتلتقي برفيق دربها، متزينة بعلم مصر، ومتوسدة ثرى كمشيش.
*****
عشتِ مرفوعة الرأس أيتها الحبيبة، "يا امّ الصوت الحزين/ يامّ العيون جناين/ يرمح فيها الهجين"،
اخترتِ حياتك ومسيرة نضالك ورفاق دربك/ "نوّار البساتين"،
رفضتِ عرض المحافظة أن تحمل "كمشيش" اسم "صلاح حسين"،
وأعلنتِ: "غير جائز أن تنسب بلد النضال والحرية والوقوف ضد الإقطاع إلى فرد مهما كان تاريخه ومواقفه".
آمنتِ بالثورة وجعلتِها نهج حياة، وحاربتِ الثورة المضادة، والإقطاع، ورفضتِ كامب ديفيد، ودخلت المعتقل مرتين، مع رفيقات النضال، وذُقتِ مرارة الإبعاد عن كمشيش في عهد السادات،
أحببتِ مصر وفلسطين، وأحبّتك مصر وفلسطين،
آمنتِ بالجيل القادم، الذي سوف يفرز حتماً فارساً "محسوب الخطوة/ يتحرك بالقوانين/ لحظة ما تحين الساعة/ يركب ضهر التنين/ ويحطِّم الحواجز/ ويفكّ المسجونين".
سوف نودِّعك كما ودَّعك أهالي قرية كمشيش: "الوداع للوطنية..يا شاهندة يا وطنية".