عام دراسي جديد، ما هو المطلوب؟

عبد الغني سلامة
حجم الخط

لا تختلف المناهج ونظم التعليم في فلسطين كثيرا عن بقية الدول العربية، وهذه النظم أثبتت عبر عشرات الشواهد فشلها وعجزها وتخلفها؛ لأنها تعتمد على التلقين والحفظ، وتقيّم الطلبة استنادا إلى الامتحانات، وتجعل هدف الطالب تجاوز الامتحان فقط.. بل وتجعل الطالب (والمعلم) يكرهان المدرسة، وينتظران بفارغ الصبر أية مناسبة للتعطيل.  
اليوم، ثمة فرصة ذهبية أمام قطاع التعليم بوجود د. صبري صيدم على رأس الوزارة، الوزير الشاب المفعم بالحيوية، الذي يسعى للتطوير، ويقود ثورة من التغييرات الجوهرية، لعل أبرزها إلغاء "التوجيهي"، والبدء بإعادة صياغة المناهج، وغيرها من المشاريع الطموحة.
وبالطبع، يدرك صيدم وكل الأسرة التعليمية، أن تغيير المناهج، رغم أهميته، ليس كافيا، وأنه لا يقتصر على تغيير الكتب والمقررات.. المطلوب تغيير جذري يطال أسس وأساليب التعليم، والتخلي عن النظام التقليدي الذي عايشناه على مدار العقود الماضية، وهذا يتطلب بالضرورة تطوير البنية التحتية للتعليم، بما يشمل تغيير أسس القبول في الجامعات، وتطوير أداء المعلمين، ليتواءم مع التغييرات المنشودة.. وعندما نقول تطوير المعلمين، لا نقصد فقط إشراكهم في الدورات التدريبية ورفع كفاءتهم المهنية؛ بل وأيضا تحسين ظروفهم المعيشية، وتحسين رواتبهم، وحل الإشكاليات المتعلقة بنظام التوظيف والترقيات.
في هذا السياق، نتابع بإعجاب مساعي الوزارة الحثيثة لتطوير العملية التعليمية برمتها، مع إدراكنا أن نجاح الوزارة مرهون بمدى تفاعل قطاع المعلمين واقتناعهم بالبرامج الجديدة، وبتوفر حاضنة أهلية ودعم مجتمعي.. ما يتطلب رفع منسوب الوعي بهذا الشأن، ويتطلب أيضا إشراك فئات متخصصة من خارج الوسط التعليمي، وإشراك الطلبة أنفسهم، والاستفادة من التغذية الراجعة، ومن التقييمات المستمرة.
مثلا، تسعى الخطة الجديدة للتخلص من الكتب تدريجيا.. وهذا مسعى جيد، ولكن ليس المقصود بذلك استبدالها بالحواسيب المحمولة، بل بتوفير بدائل عملية متنوعة، مثلا يمكن لفيلم وثائقي عن جسم الإنسان أن يكون بديلا عن فصل كامل من كتاب العلوم، أو أن تحل مجموعة أفلام تاريخية بدلا من كتاب التاريخ.. على أن تتبعها مناقشات حرة عن الموضوع.. وقد أثبت بعض الدراسات أن الطلبة ينسون مباشرة بعد الامتحان نصف المعلومات التي تعلموها بالإلقاء التقليدي، في حين تساعد وسائط الاتصال التعليمية الحديثة على تركيز المعلومة، وبالتالي تقليل الفاقد في التعليم.
في هذا السياق، يمكن أيضا تخيل استبدال حصص الرياضيات والفيزياء المملة ببرامج عملية شيقة، على غرار برنامج "ألعاب العقل" الذي تبثه قناة "ناشيونال جيوغرافيك".. أعتقد أنه بوسعنا حينها توقع ظهور نوابغ وعلماء.. ويمكن تخيّل حصص تقدَّم في أحضان الطبيعة، أو في أماكن أثرية، أو على المسارح، وفي المصانع.. ويمكن تخيل مناهج جديدة خالية من الحشو والإنشاء، وما هو غير ضروري، وما تجاوزه الزمن.. 
على المستوى الاجتماعي نريد من المنهاج الجديد أن يعيق إعادة إنتاج النظام الأبوي، وأن يحد من هيمنة البنى المسيطرة بمختلف عناصرها، وأن يقوّي شعور الطالب بإنسانيته، ويعزز فيه قيم المواطَنة، والاعتزاز الوطني، وإدراكه أهميته في المجتمع.. على المستوى التربوي نريد من المنهاج أن يراعي الفروقات الفردية بين الطلبة، وأن يكون قادرا على استكشاف الحالات الخاصة، سواء تلك التي تستوجب رعاية خاصة، أم الحالات العبقرية والمواهب والقدرات المميزة؛ وبالتالي تشجيع المبادرات الإبداعية.. ونريده أن ينمّي مهارات الطلبة، ويشجعهم على تكوين اتجاهات فكرية لشخصياتهم، ويدربهم على تذوق الجمال وتشربه، وعلى تقبُّل الآخرين، واحترام الرأي الآخر، وعلى الحوار العقلاني، والتفكير النقدي والمنطقي، واعتماد المبادئ العلمية في تفسير ظواهر الكون، وأن يحررهم من سلبيتهم، عن طريق الممارسات العملية والتطبيقية، وكسب مهارات البحث العلمي، وطرح الأسئلة دون حرج، وأن لا يقتصر دور الطالب في الحصة على الاستماع لمعلمه وهو يلقنه بالمعلومات، واستبدال ذلك بالتعليم النشط والتفاعلي.. باستخدام وسائط التعليم الحديثة، المنسجمة مع روح العصر، بكل ما يعنيه ذلك من مواكبة للتطورات العلمية والتكنولوجية.. وتوجيه النظام التربوي ليكون أكثر مواءمة لحاجات الفرد والمجتمع، ومراعاة التوازن بينهما.
نريد من المنهاج الجديد أن يساهم في الانفتاح على الثقافات الإنسانية، وهذا يتطلب تنقية المناهج من كل التفسيرات المغلوطة للدين، والتي قد تؤدي إلى تكريس العنصرية والعصبية أو الدعوة للعنف والتطرف.
ولكن، قبل الحديث عن تغيير المناهج، وبرامج التطوير الطموحة، نحتاج لبعض التغييرات البسيطة، والمهمة.. مثلا، أغلب المدارس لا توجد فيها مختبرات، وإن وُجدت فتضم بعض الأدوات البدائية والأجهزة التي تراكم عليها الغبار.
أغلب المدارس بلا حمامات نظيفة، وبلا ملاعب، وإذا وجدت ملاعب فهي غير صالحة، تصليح لوحة كرة السلة يحتاج 30 دولارا فقط، وهذا يوفر فرصة ظهور لاعبين بارعين، ومع ذلك أغلبية المدارس تتقاعس عن هذا الإجراء.. كم مدرسة لديها منتخبات رياضية؟ أو فرق كشفية وموسيقية؟
نحتاج مع المكتبة حصة للقراءة، وحوافز لتشجيع المطالعة الحرة، نحتاج مسابقات رياضية وثقافية، نحتاج وعيا من المعلمين بأهمية حصة الرياضة، وحصة الفن، والموسيقى، والأنشطة اللامنهجية.. ونحتاج أن نتخلص من الواجبات البيتية، وإعطاء وقت أطول للأطفال ليلعبوا وينعموا بطفولتهم.. 
نحتاج أن نتخلص من وهم أن الكيمياء تتطلب ذكاءً أكثر من كتابة قصيدة، وأن درس الدين أهم من إسعاد طفل، وأن حصة العربي أولى من حصة الرياضة، وأن الزي الموحد أهم من زراعة حديقة المدرسة، وأن الالتزام بالدوام أهم من العمل التطوعي.. وأن ذكاء الطالب يُقاس بالامتحان، وأن حُسن تربيته تعني امتثاله للمعلم، وأن المعلم الناجح هو الذي ينهي المقرر في أوانه، وأن المدير الناجح هو الذي يقمع الطلبة، ويكتم على أنفاس المعلمين..
باختصار، نحتاج كسر شرنقة الخوف من التغيير، والخروج عن المألوف.. المألوف الذي ظل يعيد إنتاج التخلف والقهر الاجتماعي والإنساني على مدى قرون.. لعل التغيير هذه المرة يضعنا على بداية الطريق، ليكون لنا مكان تحت شمس المستقبل.