هناك أشياء قليلة مضمونة في الحياة، لكن احتمالات فشل السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط في الوقت الراهن شبه مضمونة، ولعل السياسات والخطط الأميركية المتعلقة بمكافحة تنظيم الدولة في الموصل والرقة وحلب وسرت، تقدم لنا دليلا دامغا عن سبب ذلك.
فبعد فترة وجيزة من الحرب الأهلية السورية وقعت المدن الرئيسية كحلب والرقة تحت الحصار من قبل مجموعة من القوات والميليشيات المتناحرة، التي تشمل تنظيم الدولة. وفي العام 2014 سيطر مقاتلو تنظيم الدولة على مدينة الموصل العراقية، وخلال العام الماضي أسّسوا موطئ قدم لهم في مدينة سرت الليبية، وأصبحت المدن الأربع اليوم جميعها تحت السيطرة الكاملة أو الجزئية لتنظيم الدولة.
وتشارك الولايات المتحدة بنشاط عسكري في محاولة لتدمير تنظيم الدولة في كل مكان. إن استراتيجية واشنطن المستخدمة في تلك المحاولات تتوافق مع الطريقة التي تدير بها سياستها الخارجية في جميع أنحاء المنطقة، وأصبحت تجسد سبب فشل تلك السياسة، والسبب وراء احتمالية استمرارها في الفشل.
اشتبك الجيش الأميركي مع تنظيم الدولة في أو بالقرب من كل واحدة من المدن الأربع، وذلك باستخدام مزيد من الضربات الجوية والهجمات بطائرات دون طيار وقوات العمليات الخاصة. والهدف من جميع هذه العمليات هو مساعدة القوات المحلية، الصديقة للولايات المتحدة، من أجل هزيمة تنظيم الدولة. وكانت النتيجة بالرغم من ذلك، هي مواصلة القتال، ما ساعد على منع المتمردين أو القوات المسلحة المختارة من قبل واشنطن من الخسارة، لكن بشكل غير كاف، في ظل محدودية قدرات المسلحين، لتكون الحاسم في تحقيق أي أحد للفوز.
أحد الأسباب هو أنه لا توجد مجرد حالة للجانبين، لا يوجد وضع يتضمن "الأخيار" ضد "الأشرار". وبدلا من ذلك، كان لكل واحدة من المدن الأربع قائمة من المتخاذلين، غير المستقرين وغير الموثوق بهم من العناصر المتنافسة، والعديد ممن يغيرون ولاءهم، عندما يرون أن ذلك مناسب من الناحية التكتيكية. وحتى تحديد المصالح الأميركية أصبح أكثر غموضا.
ويجري التنافس في الرقة وحلب في سورية من قبل عشرات من المجموعات المتمردة، التي تدافع عن نظام الأسد، فضلا عن التدخل المباشر من الروس والأميركان والإيرانيين، ومن المرجح أن يكون هناك قوى خارجية أخرى.
إن الشيء الوحيد الواضح في هذه المعركة هو أن الولايات المتحدة ترغب في القضاء على وتدمير تنظيم الدولة. وهذا لم يتم الفصل فيه من قبل البنتاغون أو البيت الأبيض، بالرغم من أن تلك الإجراءات العسكرية تهدف إلى تحقيق إنجاز استراتيجي. ومع ذلك ما يدعو للقلق بشكل أكبر هو أنه لا يوجد دليل حتى على وجود هدف تكتيكي يعقل.
من سيكون المستفيد من القوة الجوية الأميركية بالرقة وحلب، إذا ما تمت هزيمة تنظيم الدولة في نهاية المطاف؟ من المحتمل تماما أن تهزم العمليات العسكرية الأميركية تنظيم الدولة، وذلك فقط حتى نرى أن قوات الأسد تفرض سيطرتها. وإذا لم يفرض النظام السوري السيطرة، حينها ربما القوة الأقوى من المتمردين والمتمثلة في جبهة النصرة، قد تتحمل المسؤولية. كما أنه ليس واضحا ما إذا كانت الجماعات الإسلامية المتمردة المسماة بـ"المعتدلة" ستنحاز بشكل فعلي الى مصالح الولايات المتحدة، إذا تم تصعيدهم للسلطة.
وبالمثل في سرت الليبية كان هناك عدد من الجماعات الوطنية والمتمردين يتنافسون على السيطرة على المدينة. ومنذ بداية آب كانت القوات الجوية الأميركية تدعم الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة في ليبيا في هجماتها ضد تنظيم الدولة. وإذا تم طرد الإرهابيين في نهاية المطاف، سيتحول الكفاح ببساطة إلى معركة جديدة بين القوات الحكومية المتنافسة بالفعل، أو غيرها من الجماعات المتمردة غير التابعة لتنظيم الدولة، حيث ستنتقل بكل بساطة الحرب الأهلية في سورية إلى المرحلة التالية.
وفي أواخر آب، وبعد زيارة للخطوط الأمامية للمواجهة بين تنظيم الدولة وجميع القوى الأخرى بالقرب من الموصل، بالعراق. كان القادة العسكريون للبشمركة يفرطون في تقديرهم لسلاح الطيران الأميركي، الذي ساعدهم في التحقق ثم البدء في دحر تنظيم الدولة منذ العام 2014. لكن مع اقتراب موعد الهجوم من أجل استعادة الموصل أصبحت كيفية الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة أقل وضوحا بعد هزيمة تنظيم الدولة.
جدير بالذكر أن مقاصد وأهداف البشمركة الكردية لا تتماشى مع حكومة بغداد. ويبدو أن العديد من المليشيات الشيعية، التي تدعم إيران الكثير منها، قد تم وضعها لأقاليم معينة، ويتم التحكم في بعضها حاليا من قبل تنظيم الدولة، والأجزاء الأخرى منها تحت سيطرة السلطة الكردية. ولا تزال القوات السنية معادية بشكل بالغ للمليشيات الشيعية، التي تحذر من بغداد، ولديها مخاوف إزاء النوايا الكردية.
هل ستتفاوض واشنطن وسط العديد من أصحاب المصالح المتنافسة بعد هزيمة تنظيم الدولة، والذي يعد الكثير منهم منظمات إرهابية في حد ذاتهم؟ إذا كانت تلك المجموعات ليست على القائمة المعتمدة للحصول على السلطة، فهل ستتحول القوة العسكرية الأميركية، إذاً، ضدهم؟ وماذا ستفعل الإدارة إذا بدأ الأصدقاء الديمقراطيون منذ فترة في قتال القوات الشيعية من حكومة بغداد، التي تم استثمار الكثير من خلالها؟ إن المشكلة ليست فقط في أي من هذه الأسئلة يمكن الإجابة عنها، لكن يبدو أنه لا البيت الأبيض ولا "البنتاغون" فكّر في هذه الأسئلة، ووضع أقل الاحتمالات لكل منها.
إن الوضع في كل من هذه المدن يشير إلى العبث المحزن في السياسة الخارجية الأميركية للشرق الأوسط. لقد باءت تلك السياسة بالفشل التام. وهناك حاجة ماسة لتصحيح المسار. وليس من المحتمل أن تقوم إدارة أوباما بأي تغييرات خلال الأشهر الأخيرة من ولايته. ويأمل البعض في مواجهة معقولة، إما من إدارة كلينتون أو ترامب لتلك الحقيقة البشعة.
ومع ذلك، هناك شيء واضح، وهو أن تكلفة مصالح الولايات المتحدة بالخارج والمخاطر الأمنية بالداخل سيتسمر كلاهما على مدار مساراتهم إذا لم يتم إجراء تغييرات حقيقة حول كيفية تنظيم وإدارة الحكومة للسياسة الخارجية. لقد كانت أميركا تاريخيا هي الأكثر قوة من حيث الاقتصاد والأمن والبنية، وذلك عندما كانت تشارك في السياسة الخارجية المتواضعة التي تؤكد على الاستقرار العالمي والعلاقات التجارية ذات المنفعة المتبادلة. وما لا تحتاجه الولايات المتحدة هو استمرار الوضع الراهن في تلك السياسة، التي أدمنت تطبيق القوة العسكرية المدمرة، وتعمل بشكل روتيني ضد المصالح الأميركية.
«ربيع ساخن» على الشرق الأوسط والعالم
09 يناير 2025