على الرغم من مرور ما يقرب من سبعة عقود على «النكبة»، إلا أن إسرائيل الرسمية لا تزال تخشى من نشر تفاصيل ما جرى فيها وخصوصاً عمليات التطهير العرقي وتهجير أهل فلسطين. ومن الجائز أن ما نشرته صحيفة «هآرتس»، أمس، عن تمديد الحكومة الإسرائيلية أمر حظر نشر وثائق تتعلّق بتهجير الفلسطينيين «خوفاً من المسّ بالعلاقات الخارجية» صلة بما تُحاول إسرائيل ترسيخه من رواية مُضلّلة حول ترك الفلسطينيين لأراضيهم بأنفسهم. وتزداد مخاوف إسرائيل من نشر أي وثائق ذات صلة بهذا الشأن خصوصاً أن رئيس حكومتها يُحاول أن يُقنع العالم بأن المُطالبة بتفكيك المستوطنات هو «تطهير عرقي» ما أثار ضده سخرية حتى من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.
ونشر المراسل السياسي لـ «هآرتس» باراك رابيد، أمس، أن الحكومة الإسرائيلية تُزمع تمديد الحظر على نشر أحد الملفات المركزية في أرشيف الجيش الإسرائيلي والمُتعلّق بنشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. ونقل رابيد عن موظفين إسرائيليين كبار قولهم إنه في نقاش اللجنة الوزارية لشؤون المادة الأرشيفية، برئاسة وزيرة العدل آييلت شكيد، عرض مندوبو وزارة الخارجية ووزارة الحرب رأياً قاطعاً ضدّ فتح الملف أمام الجمهور، خوفاً من المسّ بأمن الدولة وبعلاقاتها الخارجية. وتناول رأي وزارة الخارجية، ضمن أمور أخرى، مكانة اسرائيل الدولية وتأثير النشر على المفاوضات المستقبلية مع الفلسطينيين أو على قرارات مؤسسات الأمم المتحدة المُتعلّقة بمسألة اللاجئين.
وحسب «هآرتس»، فإن النقاش جاء في أعقاب طلب جمعية «حقوق المواطن» من أرشيف الجيش الاسرائيلي الإفراج عن الملف. الملف موضع الحديث، يعود إلى دائرة التاريخ في الجيش الاسرائيلي ورقمه 1975/ 922 - 681 يتضمّن بحثاً طلبه رئيس الوزراء الأول دافيد بن غوريون في بداية الستينيات بهدف الإثبات أن قرابة مليون فلسطيني كانوا يعيشون في المدن والقرى في أراضي اسرائيل في العام 1948 فرّوا طواعية أثناء حرب 48 ولم يطردهم الجيش الاسرائيلي.
وكانت «هآرتس» قد كشفت قبل ثلاث سنوات من خلال المؤرخ الدكتور شاي حزكاني عن وجود هذا البحث الذي أعدّه سلسلة من المستشرقين الإسرائيليين بناء على طلب بن غوريون، في إطار سعيه لتعطيل الضغط الأميركي لإعادة اللاجئين. وأمل بن غوريون أنه إذا اقتنعت الأسرة الدولية بأن الفلسطينيين غادروا بإرادتهم ولم يُطردوا بالقوة من قراهم على أيدي الجيش الاسرائيلي، مثلما ادعوا فور الحرب، سيقلّ الضغط على اسرائيل لإعادتهم إلى أراضيها. ومن المراسلات الحكومية في تلك الفترة تبيّن أنه قيل لمُعدّي البحث مسبقاً ما يتعيّن عليهم أن يُثبتوه ـ وهو أن العرب فرّوا بتشجيع من زعمائهم وبمساعدة الجيوش العربية، بينما حاول اليهود منع ذلك.
وكان بن غوريون طلب إجراء بحثين على الأقل في موضوع اللاجئين. البحث الأول كتبه المستشرق روني غباي في إطار هيئة كانت تسمى في الستينيات «معهد شيلوح»، وتحوّل على مدى الزمن، ليُصبح مركز «دايان» في جامعة تل أبيب. واستند البحث إلى وثائق في الأرشيفات الاسرائيلية، بما فيها أرشيف جهاز الاستخبارات «الشاباك». أما البحث الثاني، فكتبه موشيه ماعوز، الذي كان في حينه يعمل لدى مستشار رئيس الوزراء للشؤون العربية وهو اليوم بروفسور كبير في دراسات الشرق الأوسط في الجامعة العبرية. وكان بحث ماعوز يستند جزئياً إلى بحث غباي.
في العام 2013، توجّه د. حزكاني، الذي يعمل اليوم محاضراً كبيراً في مركز «مايرهوف» للدراسات اليهودية في جامعة ميريلاند من خلال يود آفنر بنتشوك من جمعية «حقوق المواطن»، إلى أرشيف الجيش الاسرائيلي بطلب الإفراج عن الملف لاطلاع الجمهور. في تشرين الثاني 2013، أعلن أرشيف الجيش الاسرائيلي بأنه «لا يُمكن وضع الملف أمام الجمهور وهو سيبقى سرياً». فتوجّه حزكاني وبنتشوك إلى مسؤول أرشيف الدولة أيضاً، يعقوب لزوبيك، الذي يتولّى الصلاحية العليا في الموضوع، وادعيا بأنه لما كانت الوثائق في الملف كُتبت في موعد متأخر من العام 1964، فقد انقضت فترة التقييد لها وهي في أقصى الأحوال 50 سنة.
في تموز 2014، أبلغ مسؤول أرشيف الدولة حزكاني وبنتشوك أنه بعد التشاور في الموضوع مع أرشيف الجيش الذي يُعارض فتح الملف للجمهور، قرّر طلب انعقاد اللجنة الوزارية لشؤون الأرشيف كي تتّخذ القرار.
وتنعقد اللجنة الوزارية لشؤون الأرشيف في أوقات متباعدة فقط كي تحسم في مسائل حسّاسة موضع خلاف. وفي المرة الأخيرة التي اجتمعت فيها اللجنة كانت في العام 2008، حين صوّتت على استمرار الحصانة على الملفات المتعلّقة بمذبحة دير ياسين. وحسب قانون الارشيف، فاذا كان مسؤول أرشيف الدولة يُريد تمديد الحصانة على مادة يُفترض أن تفتح للجمهور، فإن عليه أن يحصل على الإذن من لجنة خاصة تتشكّل من ثلاثة وزراء مسؤولة عن شؤون الأرشيف.
وكان تقرّر انعقاد اللجنة في مواعيد عدة، ولكن البحث فيها تأجّل في كل مرة. مرّة بسبب حلّ الحكومة وانتخابات 2015، ومرّات أخرى لأسباب الجداول الزمنية. وقبل نحو أسبوع، في 11 أيلول، انعقدت اللجنة أخيراً للبحث في طلب فتح «ملف النكبة». وتضمّ اللجنة في عضويتها إلى جانب وزيرة العدل، وزيرة الثقافة ميري ريغف، التي عملت في الماضي كرئيسة للرقابة العسكرية ومتحدثة باسم الجيش الاسرائيلي، وزير الطاقة يوفال شتاينتس، الذي كان في الماضي رئيس لجنة الخارجية والأمن ووزير شؤون الاستخبارات.
وقال د. حزكاني لـ «هآرتس» إنه يُوجد في الأرشيفات في إسرائيل، عدد غير قليل من الملفّات والوثائق المُتعلّقة بالعام 1948 لم تُفتح بعد أمام الجمهور، وحتى عدد غير قليل من الملّفات التي كانت مفتوحة في الماضي ولكن أُغلقت. وشدّد على أنه «بتشجيع من القيادة السياسية، يُمدّد أرشيف الدولة وأرشيف الجيش بناء على رأيهما فترات الحصانة على الملفات ويمنعا الباحثين في اسرائيل وفي العالم من رواية قصة 1948 بكاملها».