تمرُّ الديمقراطيات الأوروبية بحالة تحول واضحة نحو مفهوم جديد للسلطة السياسية قائم على استخدام الديماغوجية لاستمالة الجماهير، من خلال اللعب على العواطف بشكل متعمّد، والابتعاد قدر الإمكان عن مخاطبة العقل أو المنطق.
بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وخسارة ملايين الأرواح، تنبّهت الشعوب والنخب الأوروبية إلى ضرورة تغيير الرؤى والأفكار التي سادت أوروبا آنذاك - من فاشية ونازية وتمسك بجذور القوميات - بشكل جذري، إلى سياسة الانفتاح والدمقرطة وصون الحريات بأشكالها كافة، لأن ذلك هو السبيل للتخلص من عودة الغرب إلى مستنقع الاقتتال العسكري أو الاقتصادي أو السياسي.
خلال العقدين الماضيين، بدأت تنشط في كثير من الدول الأوروبية مجموعات شعبوية لأسباب متعددة، وربما كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السبب الأول والمباشر لصعود هذه الحركات والمجموعات اليمينية.
خلال السنوات الماضية كانت الهجرة سبباً آخر في صعود التيارات الشعبوية والتي تحذر من أن المهاجرين سيسيطرون على البلاد، وتحذر على وجه الخصوص من أسلمة المجتمع الغربي، لأن معظم المهاجرين من المسلمين.
جاءت التطورات الدراماتيكية في الشرق الأوسط في السنوات الخمس الماضية من خلال الحروب والنزاعات الأهلية والإثنية والطائفية لتفرز هجرة مكثفة إلى أوروبا وتزيد من قوة الشعبويين.
التحول الكبير كان في الظاهرة "الترامبية"، أي صعود نجم الملياردير الأميركي دونالد ترامب الذي تقدم للترشح للرئاسة الأميركية، والذي كان يبدو كرجلٍ مغفّل أو ساذج ليست له علاقة بالثقافة، وكل ما يملكه خطاب بسيط يتوجه به إلى الجمهور الأميركي، مركزاً على استثارة العواطف تجاه قضايا حساسة لدى الجمهور، ومنها الوضع الاقتصادي وهروب الشركات إلى الخارج وفقدان فرص العمل، ثم التركيز على المهاجرين غير الشرعيين، وخاصة من الدول المجاورة كالمكسيك، وليس انتهاءً بمنع المسلمين من دخول الولايات المتحدة حتى تثبت براءتهم من الإرهاب.
في بدايته، رأى كثير من المحللين السياسيين أن هذا الخطاب الشعبوي الساذج، وهذه الرؤية للعلاقات الدولية لا يمكن أن تمر، وأن ترامب ليس إلاّ حالة عابرة، سرعان ما تتلاشى.. لكن ما حصل هو العكس تماماً، إذ التفت الجماهير من الطبقات العاملة أو الكادحة أو التي تؤمن بفكر التفوق والقوميات المتطرفة واليمينية حول هذا الخطاب، وأصبحت ترى نفسها جزءاً منه حتى جاءت المفاجأة في النهاية بفوز ترامب وتفوق الشعبوية على الخطاب الليبرالي الذي مثله الحزب الديمقراطي.
سرعان ما انتشرت الشعبوية بين الديمقراطيات الغربية حتى أصبحت تهدّد الأنظمة الليبرالية بشكل كبير، ففي فرنسا، يستعد اليمين للانتخابات الرئاسية على قاعدة الخطاب الشعبوي، وهو يكسب في هذا المجال.
في النمسا، الانتخابات الرئاسية على قاب قوسين، ومن الواضح أن كل استطلاعات الرأي تؤكد فوز من يمثل الشعبويين في هذه الانتخابات. وفي إيطاليا، أيضاً، التوجهات الشعبوية نفسها تبرزها الاستفتاءات العامة.
بمعنى آخر أوروبا تتغير وديمقراطياتها، وأسسها الليبرالية الجديدة ما بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت تواجه أخطاراً كبيرةً، وهذا بالتالي يؤثّر بشكل مباشر، أيضاً، على المناطق المجاورة بشكلٍ رئيس، والعالم بشكلٍ عام.
نحن العرب يجب أن نأخذ هذه التحوُّلات على محمل الجد، ويجب أن نستعد لإعادة قراءة ما يحصل في أوروبا وأميركا من تحوُّلات أيديولوجية خطيرة.
أما القضية الفلسطينية فإنها المتأثر الأعظم من هذه التحوُّلات التي سرعان ما تنتج أنظمةً لا تقل سوءاً عما كانت عليه أوروبا قبل سبعة أو ثمانية عقود ماضية!!