القدس في مهب الريح؟!

هاني عوكل
حجم الخط

يبدو أن هناك تناغماً حاضراً بين موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته من نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وبين ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي من أجل تهويد هذه المدينة والتحضير لنقل السفارة الأميركية إلى القدس.
ترامب أعلن قلباً وقالباً عن دعمه للسياسة الإسرائيلية في كل شيء، في الأمن والاستيطان وحتى مصير الدولة الفلسطينية، وهذا الموقف مترجم أصلاً في السياسات الإسرائيلية التي تهدف كل الوقت إلى تسمين المستوطنات وقطع التواصل الجغرافي الفلسطيني للقضاء على حل الدولتين.
قبل أيام قليلة جداً، قررت ما تسمى محكمة الصلح الإسرائيلية أن المسجد الأقصى أقدس مكان لليهود، وأنه لا يحق لأي أحد كان، أن يمنع المستوطنين واليهود من إقامة شعائرهم الدينية، وهذا القرار يعكس الموقف الإسرائيلي من القدس المحتلة.
لقد سعت إسرائيل كل الوقت إلى طمس التراث الفلسطيني وتشويه المعالم والمقدسات الإسلامية والحضارية، واستبدالها باليهودية، حتى تسوّق نظريتها التآمرية بأن لها حقاً تاريخياً في فلسطين والقدس تحديداً، وكم ظلت بحفرياتها تحت المسجد الأقصى تفعل المستحيل من أجل طمس الهوية المقدسية هناك.
سبق هذا القرار محاولات كثيرة لاستباحة حرمة المسجد الأقصى وإطلاق يد المستوطنين والجنود الإسرائيليين للتجول في باحات المسجد ومنع الفلسطينيين من ممارسة صلواتهم، والجميع يتذكر أن الانتفاضة الثانية قامت إثر تدنيس أرئيل شارون باحات الأقصى.
هدف شارون آنذاك هو التأكيد على ضرورة الإسراع في تهويد القدس، ورسالة إلى العالم أن هذه المدينة يهودية وأن سلطات الاحتلال لن تتهاون في السيطرة على كامل مفاصلها، بدليل حالات إغلاق المقدسات الإسلامية بوجه المصلين، وإقامة الحواجز والمتاريس وضبط حركة الفلسطينيين في القدس.
أضف إلى ذلك أن الجرافات الإسرائيلية لم تتوقف يوماً عن هدم منازل المقدسيين بذريعة أنها غير مرخصة، فضلاً عن ذرائع أخرى يسوقها الاحتلال من أجل محاصرة المقدسيين وضمان رحيلهم القسري عن مدينتهم.
هذا القرار ليس الأول والأخير، خصوصاً وأن الاستراتيجية الإسرائيلية والمعتقد اليهودي يقضي بالسيطرة الكاملة على القدس المحتلة، والأمر مدروس ومحسوب لجهة استخدام القوة وتوسيع الاستيطان وفرض القوانين التي تخدم عملية السيطرة، إلى جانب تحريك الديمغرافيا الإسرائيلية وتوسيع وجودها على حساب المقدسيين.
الاحتلال فعل ويفعل هذا حين يلحظ أن ردود الفعل الفلسطينية والعربية لا تتجاوز حدود الاستنكار والحرد، ويزيد من إجرامه وغيه حين يطمئن للسياسة الأميركية التي تدعم بقوة رؤيته في السيطرة المكانية والزمانية على القدس.
القرار الأخير يأتي في إطار السعي الإسرائيلي للقضاء على أي حديث عن دولة فلسطينية مستقلة.
دولة الاحتلال تجد الظرف الدولي الراهن أكثر من مناسب من أجل القيام بمثل هذه الأعمال العنصرية، إذ سبق القرار المذكور قرارات كثيرة تجيز توسيع المستوطنات في الضفة الغربية وإقامة الوحدات الاستيطانية، ولم يتحرك أحد من أجل وقف الاستيطان.
حينما يصدر عن الاحتلال مثل هذا القرار، فإنه بالتأكيد رسالة تستهدف أولاً العالم، بأن الاحتلال الإسرائيلي ماضٍ في قراراته وممارساته غير الأخلاقية، بصرف النظر عن المواقف الأوروبية أو العربية التي تدعوه للتوقف عن الاستيطان واستهداف الفلسطينيين.
القرار أيضاً يأتي بينما الفلسطينيون أصحاب القضية والأرض والتاريخ، منشغلون حتى العظم في قضايا الخلاف والانقسام، ومنشغلون في طرائق التفكير حول موقفهم من السياسات الإسرائيلية العنصرية، وما الذي ينبغي فعله لترجمة شعار الدولة الفلسطينية المستقلة على الأرض.
لقد خسر الفلسطينيون كثيراً حينما قرروا الذهاب قسرياً أو عكس ذلك إلى إدارة الملف الفلسطيني الداخلي بطريقة تديم النزاع لا تحله، ذلك أن هذا الخلاف انعكس سلباً على مصير الدولة الفلسطينية وعلى ملف الاستيطان وحتى أنه انعكس على حياة الفلسطينيين.
القدس تهوّد تحت الأرض وفوقها، ولم يكن هناك موقف حاسم وجدي بضرورة الانتباه للسياسات الإسرائيلية، والخشية أن يذهب الوقت وتكون القدس قد صارت مثل بعض المدن العربية الأخرى التي رسخت فيها سلطات الاحتلال جذوراً يهودية مصطنعة.
والحال أن الفلسطينيين إذا سكتوا عن مثل هذا القرار، ولم يقفوا بقوة أمام الإجراءات الإسرائيلية، فإننا قاب قوسين أو أدنى من التهويد الفعلي والكامل للقدس المحتلة، ذلك أن مثل هذا القرار يحتاج إلى تحرك فوري وعاجل من أجل وقفه بالفعل.
يفترض حقيقةً أن قضايا مهمة ومصيرية وتشكل ثوابت عند الفلسطينيين، يفترض أن تدار بحزم فلسطيني وبيد واحدة، بعيداً عن أي خلاف فصائلي، والمعنى أن أي قرار إسرائيلي عنصري يستلزم التوحد الفلسطيني من أجل مواجهته وترك الانقسام الداخلي جانباً إلى حين إزالة الخطر.
المجتمع الدولي لن يتحرك سريعاً من أجل "خاطر" القضية الفلسطينية، حيث أنه يعاتب الفلسطينيين في كثير من الأحيان على سوء إدارتهم لقضيتهم، الأمر الذي يدفع الفلسطينيين إلى ضرورة التحرك السريع من أجل الوقوف أمام مثل هذا القرار.
ويجوز القول إن كل المدن الفلسطينية في خطر، لكن الخطورة أن تهود القدس تحت أنظار الفلسطينيين والعرب والمسلمين ومسامعهم، فالحال أن إسرائيل لم ولن تتوقف عند حدود القدس، وإنما هي ماضية في تهويد الضفة الغربية إن عاجلاً أم آجلاً.