لماذا لا نفهم بعضنا؟

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

نقاشاتنا عقيمة، حدية، يملؤها الصراخ، والتعصب.. أحياناً نضغط على أعصابنا ونتحمل المتحدث ريثما ينهي كلامه، وغالباً ما نقاطعه، وفي كل الأحوال ما أن ينهي جملته حتى نبدأ بضخ ما في جوفنا من أفكار جاهزة وأحكام مسبقة وتعميمات.. وبدوره سيكرر المتحدث نفس الممارسة.. استعراضات لفظية وترديد شعارات وكليشيهات لا نمل من تكرارها.
صفحاتنا على الفيسبوك تفيض بالحِكَم والمواعظ، وتقطر تقوى وورعاً.. لكنها مليئة بكل أنواع الشتائم، وتنضح بالكراهية والغضب والتعصب..
كل حديثنا عن حرية التعبير، والرأي الآخر، والديمقراطية، والتسامح.. يصبح هراء، ويسقط عند أول اختبار حقيقي؛ ينكشف مدى وهنه وزيفه بمجرد أن نسمع رأياً مختلفاً، ما أن نقابل إنساناً من طائفة أُخرى، أو حين يقول أحدهم شيئاً يهز قناعاتنا، أو إذا سمعنا نقداً أو انتقاداً لا يروق لنا.
الديمقراطية ممتازة حين تلبي مصالحنا، والقوانين محترمة حين تكون لصالحنا.. وخلاف ذلك، ندوس عليها دون أن يرف لنا جفن.. حرية التعبير مصانة حين تقول شيئاً يعجبني، وإذا قلت شيئاً أنكره سأبذل كل جهدي لإسكاتك وإخراس صوتك.
الشخصيات الاعتبارية الذين تربينا على أفكارهم، القادة والزعماء الذين يمثلون طوائفنا وأحزابنا.. هؤلاء مقدسون، لا يخطئون، ولا يجوز ذمهم أو نقدهم.. الجماعة التي ننتمي إليها (الحزب، الطائفة، القبيلة..) دوماً على صواب، ومن ليس معنا هو ضدنا.. وهذا ما يسمونه ثقافة القطيع.
أسهل شيء تقديم النصح للآخرين، وانتقادهم، واكتشاف نواقصهم وخطاياهم، ومن ثم ذمهم وصبّ اللعنات عليهم.. وأصعب شيء اكتشاف أخطائنا، ومثالبنا، أو الاعتراف بذنوبنا، أو إجراء أي نقد ذاتي صريح وشجاع.. وهذا ينطبق على المستويين الفردي والجمعي.
المتحدث في أي موضوع، بالنسبة إلينا هو "سحيج"، مزاود، غبي، مضلل... طالما أنه يقول شيئاً لا يتوافق مع رغباتنا ويتعارض مع قناعاتنا.. وأي متحدث يقول شيئاً ينسجم مع أهوائنا، ويدغدغ عواطفنا.. نثني عليه، ونصفق له، ونكيل له "اللايكات".. أحكامنا إجمالاً ليست عادلة، لأننا أنانيون وانتقائيون.
الإنسان بشكل عام، إذا سمع خبراً، أو قصة، أو قرأ تحليلاً وكان يتعارض مع ما نشأ عليه، سيشكل له صدمة.. وعلى الفور تبدأ آليات الدفاع في عقله الباطن بالعمل.. بداية سيرفض التصديق، سينكر الأمر، سيكذّب الخبر.. وإذا كان وقع الخبر أو الرواية قوياً سينتقل للمرحلة الثانية من الدفاع: التجاهل.. سيدفعه عقله الباطن إلى تجاهل الأمر، والاستمرار كما لو أن شيئاً لم يحدث، وإذا كانت الأدلة دامغة، سينتقل للمرحلة الثالثة: التبرير.. سيبدأ بتقبل الأمر، ولكن مع تمرير كل المسوغات والتبريرات وليّ ذراع الحقيقة والالتفاف عليها بشتى الطرق.. ونادراً ما يشذ إنسان عن هذا التسلسل.. خاصةً إذا كانت لديه أحكام مسبقة، أو كان من أصحاب الأيديولوجيات، أو يتبع تياراً أو حزباً معيناً.
بشكل عام نصدق الخبر أو نقتنع بالتحليل إذا كان يحقق لنا مصلحة معينة، وإذا كان متوافقاً مع أحكامنا المسبقة.. ونرفضه إذا تعارض مع مصالحنا، أو تناقض مع موروثنا الفكري.. بمعنى آخر، أصدقك إذا مدحتني، أو مدحت حزبي ورئيسي وشعبي وجماعتي.. أكذبك، وألعنك إذا انتقدت أفكاري، أو تعرضت بسوء لشخص أحبه.. هنا لا أهمية لمضمون الفكرة وجوهرها.. المهم أن النتيجة تعجبني أو لا.. الموضوعية والنزاهة وتحري الصدق لا وجود له.. فنحن في واقع الأمر متعصبون لأفكارنا وأحزابنا وقيمنا، بما في ذلك أتفه وأغرب عاداتنا.
من السهل أن نكتشف الكذبات الصغيرة، حتى لو كانت محكمة.. ومن الصعب جدا اكتشاف الكذبات الكبيرة، حتى لو كانت سطحية وساذجة.. وكلما كان حجم الكذبة أكبر، ومدى انتشارها أوسع، ومرت عليها الأزمان.. صار دحضها أصعب، لأنها ستتخذ شكل التابو والمقدس، ولأن الإنسان يرفض الاعتراف بسذاجته وغبائه.. فيقول لنفسه: هل يعقل أن كل هؤلاء الناس، بمن فيهم أسلافنا، والمتعلمون منهم والأدباء والمهندسون وحملة الدكتوراه.. كل هؤلاء أغبياء وساذجون!! وأنا العبقري الوحيد!!
عموماً، يرتاح الإنسان للموروث الفكري والثقافي الذي نشأ عليه، ويجد فيه الأمان.. وأي خروج عن المألوف سيكون بمثابة مغامرة غير مضمونة النتائج.. أية هزة في عالمه الساكن والمطمئن ستشعل براكين القلق والتوتر.. ومن منا يرغب بترك واحة اليقين والطمأنينة، ليروح إلى العوالم المضطربة التي تملؤها الشكوك والأسئلة.. من يرغب بترك أرضه الصلبة لينتقل إلى أرض تعرضت لزلزال عنيف للتو؟
النحل منذ ملايين السنين يعمل بكل كد ونشاط وفق نظام محكم الصرامة.. لذلك ظل نحلاً ولم يتطور.. ولو أن الإنسان ظل مرتاحاً للنار التي أوقدها أول مرة لما وصل إلى ما وصل إليه الآن.. المجتمعات عموماً تميل للسكون والمحافظة.. ولكن، يخرج من ثناياها من حين لآخر رواد في شتى المجالات.. أناس مختلفون قليلاً أو كثيراً عن مجتمعاتهم.. لهم رؤية أعمق وأبعد.. قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة، لكنها هي التي تنقل المجتمعات من طور إلى آخر.. هؤلاء المختلفون، والخارجون عن المألوف هم الذين نقلوا الإنسانية من المشاع الأول إلى العولمة.. لكن مجتمعاتهم كانت دوما تحاربهم وتضطهدهم وتنبذهم.. فعلت هذا بالأنبياء والعباقرة والمخترعين والشعراء وأصحاب النظريات الجديدة.
التعصب للأفكار والتحيز للموروث، ورفض أي جديد أكثر ما يكون واضحاً في المجال الديني.. الاقتراب منه يشبه السير في حقل ألغام.. هذه الذهنية موجودة عند كل الشعوب، ولدى جميع الديانات.
ونحن الفلسطينيين نتميز بأشكال إضافية من التعصب.. لدينا شوفينية عالية.. وكل درجات النرجسية والتطهرية.. الاختلاف بيننا سرعان ما يتطور إلى اقتتال.. لغة التخوين والتكفير هي السائدة.. الاتهامات وتصنيف الناس وإطلاق الأحكام أسهل مهمة.. ويلك يللي تعادينا.
ليس لدي أية نصيحة، ولا أملك حلاً سحرياً.. لكن رؤية أخطائنا والاعتراف بها هي بداية التغيير.. هي المدخل السليم لأي حل.
نحتاج أن نمرن أنفسنا على تقبل الآخر، مهما بدا لنا مختلفاً واستفزازياً.. وأن نكون أكثر تسامحاً.. وأكثر مرونة.. وأن نتخلى عن فكرة أننا دوماً على صواب.