هواجس فلسطينيّة في ضوء اتفاق التهدئة في غزة

409461535277274.jpg
حجم الخط

 

يحقّ لسكان غيتو غزة أن يفرحوا بالأخبار عن تهدئة طويلة الأمد برعاية جهة ثالثة ورابعة تمّ التوصّل إليها بين إسرائيل و»حماس». حقّهم أن يستريحوا ولو لسنة أو سنتين مما هم فيه، وأن يحظوا بتسهيلات في الحصار. إلى هنا، الأخبار السارة. أما الأخبار السيئة في هذا الأمر، فهي تكريس الانقسام الفلسطيني الداخلي واستمرار إسرائيل الرسمية في مشروع إدارة الصراع وإنشاء نظام تمييز عنصري على كامل فلسطين التاريخية. ما يحصل في غيتو غزة الآن هو السير وفق الإيقاع الإسرائيلي نحو مشروع أشّر إليه قانون القومية الأخير على ما يعنيه من عزوف إسرائيلي عن حل الدولتين بالصيغة التي كان يُمكن الفلسطينيين أن يقبلوا بها، والذهاب بخطى ثابتة نحو فرض السيادة الإسرائيلية على كامل المساحة بين البحر والنهر. وهو تطوّر سينسف مُعظم التنظيرات الإسرائيلية في علوم الاجتماع والسياسة والقانون التي تفترض أن إسرائيل دولة ليبرالية ديموقراطية، وأن الاحتلال وضع موقت سينتهي بالتوصّل إلى تسوية.

تناقش إسرائيل الرسمية في كل أروقتها ومواقع صنع القرار فيها، كيفية استثمار «التوتر» في غزة للالتفاف على حق تقرير المصير للفلسطينيين واستبداله بجملة تسهيلات في غزة أو الضفة الغربية، تكرّس وضعية التفوّق الإسرائيلي على الأرض. وهو وضع مثالي أن تزحف السيادة الإسرائيلية وفرض الأمر الواقع وتطبيع العلاقة بين المجتمع الكولونيالي وبين المجتمع الأصلي، الفلسطيني، من دون أن يتكلّف المجتمع الكولونيالي أي ثمن يُذكر. فإنهاء التوتّر على «جبهة» غزة بتفاوض مباشر أو غير مباشر مع «حماس» سيُضعف أوتوماتيكياً السلطة الوطنية وقُدراتها على العمل. ولاحظنا كيف تناور إسرائيل بين السلطة الوطنية و»حماس» وضرب واحدة بأخرى. أما إذا نجحت إسرائيل في تطوير التهدئة إلى اتفاق طويل لأمد، عشرين سنة مثلاً، فسيتّضح أننا حيال تقسيم الجغرافيا في شكل واضح إلى كيانات فلسطينية تحت السيطرة التامة لإسرائيل، وهو وضع تستطيع الغالبية الإسرائيلية أن تتعايش معه وتحفظه. فهو غير مكلف من ناحيتها ولأن السؤال في الجانب الإسرائيلي هو ليس «كيف نضمن حقوق الفلسطينيين؟» بل «كيف يُمكننا كإسرائيليين أن نتدبّر أمرنا مع الحفاظ على الحد الأقصى من مكاسبنا وإنجازاتنا». وهذا السؤال يقود إلى اعتماد كل وسيلة يُمكن أن تحقق لهم ذلك. وهو السؤال الذي سيقود إلى أبرتهايد مخفّف أو عميق ينسف التنظيرات عن دولة «ديموقراطية ليبرالية»!

في واقع الحال على الأرض، هناك فصل كبير بين الشعبين تغذّيه إسرائيل الرسمية. وهناك استحواذ على الأرض الفلسطينية ووضعها تحت تصرّف المستوطنين من جانبي الخط الأخضر. وهنا ممارسات تمييز على طول البلاد وعرضها من خلال قوانين وتطبيقات عنصرية واضحة. وهنا جملة قوانين بهذه الروح تترك مفاعيلها في واقع الحال لمصلحة تكريس تفوق الشعب المستوطن على الشعب الأصلي. كما أن النظام السياسي في إسرائيل يتحدد بمشاركة يهودية كاملة ومشاركة فلسطينية ناقصة. فكل الفلسطينيين في المناطق المحتلة لا يملكون حق التصويت، بينما يمتلك هذا الحق كل المستوطنين في المستوطنات اليهودية شرق الخط الأخضر. وضع يُذكرنا بجنوب أفريقيا حين كان الأصلانيون ممنوعين من الانتخاب والترشيح. هذا يعني، إذا تخيّلنا تطبيقات قانون القومية الجديد، أن حق الانتخاب سينحصر في اليهود فحسب حتى من دون الفلسطينيين في إسرائيل حدود الـ67. وفي الممارسات اليوم ما يؤشّر إلى إمكانات حصول ذلك، بخاصة أن النُخب الحاكمة والمعارضة في إسرائيل لا تُخفي رغبتها في التخلّي عن مشاركة فلسطينية في الانتخابات التشريعية.

في مثل هذه الحالة، سنشهد تطور علاقات جديدة مع الفلسطينيين في الجغرافيا الفلسطينية تُشبه التعامل الحالي مع المدن الفلسطينية الكبيرة وغيتو غزة، تسهيلات واتفاقات مناطقية وكانتونات مرتبطة بماكنة إسرائيل الاقتصادية وتخضع بالكامل لماكنتها الأمنية السيادية. واعتقادنا أننا في خضم هذا التطوّر وأنه لزاماً علينا قراءة الواقع ليس بلغة المرحلة السياسية السابقة بل بلُغة ومُفردات تناسب ما نشأ على الأرض بالفعل. هذا لا يعني أنني أغفل الإرادة الفلسطينية، وإن كانت ضعيفة في الوقت الراهن، ولا إمكانات وخيارات اعتراض فلسطينية يُمكن أن تولد وتتدحرج بقوة، بل لتأكيد إدراك دلالات الاتفاق المتشكّل بين إسرائيل وحماس في غيتو غزة. لن يضرّ إسرائيل أن تنقسم الجغرافيا الفلسطينية والإرادة الفلسطينية والسياسة والمشاريع. مثل هذا التقسيم يمكّنها من السيطرة في شكل أفضل وتكلفة أقلّ. ويمنع في الوقت ذاته، تطوّر مشروع وطني للشعب الفلسطيني الأصلاني. ومن مشاريع الاعتراض مثلاً، أن ينضمّ الفلسطينيون في إسرائيل إلى النُخب الفلسطينية في الضفة الغربية كخطوة توازن مع تحييد غيتو غزة. في مثل هذه الحالة، ستتغيّر موازين القوى وشروط اللعبة. وهكذا يصير الفلسطينيون في إسرائيل الذين همّشتهم اتفاقات أوسلو نقطة الارتكاز.

 

عن جريدة "الحياة" اللندنية