لم تنتظر حكومة حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية انعقاد مجلس الأمن، لمناقشة قرار محكمة العدل الدولية بوقف الهجوم على رفح، بل استبقت تلك الجلسة وضربت عرض الحائط بالقضاء الدولي، ولم تواصل فقط حربها الإجرامية في رفح، تلك الحرب التي طالبتها المحكمة الدولية بوقفها فورا، وحسب، ولكنها ارتكبت ثلاث جرائم جماعية على مرأى ومسمع العالم، حيث استهدفت قنابل القتل الإسرائيلية نازحين مدنيين عزلاً يقيمون في خيام، سرعان ما اشتعلت فيها النار وأحرقت أجساد الأطفال والنساء الذين كانوا يحتمون فيها من قيظ الصيف.
والحقيقة التي تستدعي المتابعة والتأمل والقراءة المتواصلة، هي تلك المتعلقة بموقف إسرائيل من القضاء الدولي، والتي كشفت بعض جوانبها صحيفة «الغارديان» اللندنية، وتضمنت القيام بعمل تجسسي مستمر منذ العام 2021 ضد قضاة المحكمة، وبالتحديد تجاه القاضية فاتو بنسودة مدعي عام المحكمة السابق، حين قررت البحث في تهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق إسرائيل، على خلفية حروبها السابقة ضد الفلسطينيين، وكذلك ضد كريم خان مدعي عام المحكمة الحالي، بما شمل تهديد رئيس الموساد السابق يوسي كوهين لبن سودة، وكشفت الغارديان عن أن كوهين هدد بن سودة لعدم المضي قدما في التحقيق الجنائي الذي يتهم إسرائيل بارتكاب جرائم الحرب حتى لا تعرض حياتها وحياة عائلتها للخطر.
وكشف تحقيق الغارديان أن الموساد مارس التجسس على المدعي العام الحالي، وعلى أعضاء المحكمة وعلى مجمل عمل المحكمة الدولية، هذا في الوقت نفسه الذي أقرت فيه الكنيست بالقراءة الأولى أول من أمس اعتبار «الأونروا» وهي الوكالة الدولية الخاصة بإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والتابعة للأمم المتحدة، كمنظمة «إرهابية» يحظر على كل مؤسسات الدولة التعامل معها، أو مع أي من موظفيها، بما يكشف طبيعة إسرائيل المعادية للمجتمع الدولي وللإنسانية جمعاء، المؤطرة في منظمة الأمم المتحدة، التي أنشئت من أجل وضع حد للحروب العالمية، وحل الخلافات الدولية بالطرق السلمية وتجنيب دول وشعوب العالم ويلات الحرب، أما الرد على قرار كريم خان، وهو محامٍ بريطاني الجنسية، سبق له أن شغل منصب الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، فما زال لم يأخذ شكله بعد، وإن كان قد وصل إلى حد التهديد بفرض عقوبات أميركية على المحكمة بأسرها، أي معاقبة القضاء الدولي، وذلك من قبل جمهوريي الكونغرس الأميركي، حيث يعتزم مجلس النواب الأميركي ذو الأغلبية الجمهورية إصدار قرار بهذا الخصوص، بعد أن اعتبر مايك جونسون قرار المحكمة الدولية خطوة غير مسبوقة، وطالب إدارة بايدن بمعارضتها.
المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي رد على الجمهوريين بالقول إن الإدارة لا تؤيد فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، في حال استجابت لطلب المدعي العام بإصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت، في الوقت الذي اعتبر فيه أن ذلك ليس من اختصاص المحكمة!
واستند كيربي في فتواه القضائية إلى كون إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، لكن المدعي العام كريم خان رد على هذه الحجة الإسرائيلية الأصل بالقول، إن فلسطين التي ترتكب جرائم الحرب على أرضها المحتلة وبحق شعبها الأعزل، هي عضو في المحكمة وذلك منذ العام 2015، وبذلك فإن قرارات المحكمة تسري عليها وفق ذلك.
الغريب أنه إذا كان الإسرائيليون يفقدون صوابهم إزاء مؤسسات الأمم المتحدة، الإغاثية والقضائية والسياسية، لدرجة أنهم وصفوا المنظمة التي تجمع دول العالم وشعوب الكرة الأرضية بالمعادية للسامية وحتى الإرهابية، فإن السياسيين الأميركيين من موظفي البيت الأبيض والخارجية بمن فيهم الرئيس بايدن نفسه، باتوا يمارسون مهنة تقديم الفتاوى القضائية بكل صفاقة، وقد خرج بايدن شخصياً قبل أيام للقول إن إسرائيل لا ترتكب جريمة حرب، وذلك بعد أن اعتبر كيربي وجاك سوليفان مستشار الأمن القومي أن واشنطن أخذت علماً بأن العملية البرية في رفح محدودة ومركزة، ولهذا لا يعتبران أن إسرائيل قد تجاوزت الخط الأحمر، أي أن أميركا منحت الضوء الأخضر لاجتياح رفح، رغم ارتكاب إسرائيل لثلاث جرائم حتى الآن في رفح.
يبدو أن هذا سيكون الموقف الأميركي الرسمي في مجلس الأمن، في حال انعقاد جلسة خاصة لإصدار قرار يلزم إسرائيل بوقف حربها في رفح، وتأييد مذكرة التوقيف، وهي بهذا الموقف ستبرر استخدامها للفيتو ضد وقف الحرب على رفح، بحجة أن ذلك ليس من اختصاص المحكمة، أو أن ذلك يعيق جهود التفاوض لوقف الحرب عبر اتفاق صفقة التبادل، كما سبق لواشنطن أن فعلت من قبل.
وإزاء رفض واشنطن الذي جاء على لسان وزير خارجيتها أنطوني بلينكن لقرار المدعي العام، أشار خان إلى أنه تعرض للتهديد من أجل ثنيه عن اتخاذ ذلك القرار، وأشار إلى المفارقة المتمثلة بازدواجية المواقف لكل من واشنطن ولندن، وذكر أن البريطانيين لم يقصفوا بلفاست عاصمة إيرلندا الشمالية رداً على محاولة اغتيال رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر العام 1984، حين وضع الجيش الإيرلندي قنبلة في فندق غراند في برايتون عشية انعقاد مؤتمر لحزب المحافظين حيث قتل خمسة أشخاص كان من بينهم نائب وزوجة وزير، وأضاف خان قائلاً إن البريطانيين لم يقولوا: دعونا نسقط قنبلة تزن 2000 رطل - في إشارة للقنابل الإسرائيلية التي تسقط تباعا منذ 8 أشهر على غزة - على طريق فولز رود وسط بلفاست.
المقارنة الحقيقية التي تكشف تماما وجدا وبشكل فاضح للغاية صفاقة أميركا، وعدم استحقاقها لتكون الدولة التي تقود النظام العالمي، خاصة وهي تقوض القضاء الدولي والمنظمات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، ممثلة بمجلس الأمن والجمعية العامة، هي مقارنة الموقف الأميركي إزاء قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية تجاه مجرمي الحرب الإسرائيليين، وما سبق لذات المحكمة أن أصدرته من مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
فقبل أكثر قليلا من عام، وبالتحديد في السابع عشر من آذار من العام الماضي 2023، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي وذلك بتهمة ارتكاب جريمة حرب، على خلفية الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فرحبت أميركا على الفور بقرار المحكمة، واعتبر الرئيس جو بايدن القرار، رغم أن بلاده ليست جزءا من المحكمة حسب قوله، أن للقرار ما يبرره وأنه أي القرار يبعث إشارة قوية جدا.
هذا مع أن روسيا أولا دولة عظمى، تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن، وبوتين هو رئيس الدولة، أي أعلى منصبا ومكانة وأهمية دولية من نتنياهو وغالانت معا، والأهم هو أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا بصرف النظر عن الجدل حول إن كان هناك طرف معتدٍ، وآخر معتدى عليه، إلا أنها حرب بين جيشين متكافئين تقريبا، وذلك بالنظر إلى أن روسيا ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، وأوكرانيا مدعومة عسكريا من أميركا والناتو، وبالنظر إلى أن معظم الخسائر بين الطرفين، وبصرف النظر أيضا عن اعتماد أرقام هذا الطرف وذاك، هي بأغلبيتها الساحقة في صفوف العسكريين ومن الطرفين، فيما الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، هي من طرف واحد، طرف مدجج بآلة دمار هائلة، تقوم بقتل مئات المدنيين يوميا، ولأجل المقارنة، نقول إنه قد وصل عدد الضحايا من المدنيين الأوكران بعد عامين من الحرب 10 آلاف من بين نحو 40 مليونا، فيما وصل في قطاع غزة أكثر من 36 ألفا من بين مليونين، وخلال 8 اشهر فقط.
أما الدمار فلا مقارنة، كذلك النزوح، ففي حين نزح خارج أوكرانيا ربع عدد سكانها وداخلها أقل من 15% فإن أكثر من 95% من سكان قطاع غزة نزحوا من منازلهم أكثر من مرة، وفي حين أن الحرب الروسية الأوكرانية تدور على الحدود، أي هناك مناطق شاسعة آمنة، فإن قطاع غزة يخلو بالكامل، من وجود أي شبر من الأرض الآمنة.
ليس ذلك وحسب، بل وحسب «الواشنطن بوست» هناك 90 حادثة موثقة شملت استهداف القوات الإسرائيلية للمستشفيات، بما يؤكد جرائم الحرب، في حين أن سي إن إن الأميركية أيضا كشفت النقاب عن أن الغارة الإسرائيلية التي أحرقت خيام النازحين في رفح يوم الأحد الفائت، أي بعد قرار المحكمة الدولية بوقف الحرب على رفح، استخدمت قنابل أميركية الصنع، وهذا يعني بوضوح أن إدارة بايدن هي شريكة في جرائم الحرب الإسرائيلية، ولا تقوم فقط بحماية مجرمي الحرب الإسرائيليين.
تقرير: فضيحة تجسس تهز إيطاليا تورط فيها الموساد
31 أكتوبر 2024