انهيار «صفقة القرن»

عبد المجيد سويلم.jpg
حجم الخط

كثيرون يتعاملون مع التوجهات الأميركية والسياسات الأميركية باعتبارها «القدر الذي لا يُردّ ولا يُصدّ».
وكثيرون، أيضاً، ومعظمهم من العرب يرون في كل ما تريده الولايات المتحدة وكأنها أوامر واجب تنفيذها والالتزام بها.
وكثيرون من هؤلاء يعتبرون أن الولايات المتحدة هي وليّة النعمة، وحامية الحِمَى، ولولاها ومن دونها فإن فرصتهم في الحياة معدومة أو شبه معدومة.
ويذهب بعض هذا البعض إلى ما هو أبعد من ذلك.
هؤلاء يرون أن لا مناص من تقديم الولاء التام والتماهي التام مع السياسة الأميركية خوفاً من أن يجري لهم ما جرى مع الذين من قبلهم من أنظمة كانت تُعتبر مُقرّبة جداً من البيت الأبيض، ولكن البيت الأبيض تخلّى عنها بكل بساطة وسهولة، وهنا بالذات لا تنقص هؤلاء الأمثلة من نظام الشاه في إيران وحتى نظام مبارك في مصر.
عندما أقدمت الولايات المتحدة على «صفقة القرن» [قبل تقديمها]، واعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقلت سفارتها إليها، ثم أغلقت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية لديها، وقطعت كل مساعداتها عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، واعترفت ضمنياً بالاستيطان والمستوطنات، وشرّعت تواجده وبقاءه فإنها (أي الولايات المتحدة) تكون قد أعطت لإسرائيل من هذه الصفقة كل شيء كانت تريده وربما أكثر مما كانت تريد.
الاستنتاج المنطقي الأول، هو أن «صفقة القرن» بعد كل الذي حصلت عليه إسرائيل لم تعد ضرورية لإسرائيل، إذ يكفيها من هذه الصفقة ما أنجزته، خصوصاً وأن الجانب الآخر والمفترض من هذه الصفقة بالرغم من كل ما يمكن أن ينطوي عليه من إجحاف بالحقوق الوطنية الفلسطينية إنما هو ما لا تريده إسرائيل، وما لا تريد له أن يتحقق، أو حتى أن يرد في الصفقة.
أي بالرغم من أن «الفتات» الذي يخبئه ترامب لنا في ذلك الشق المفترض من الصفقة لا يلبي أية مطالب وطنية فلسطينية، إلاّ أن إسرائيل تعتبر هذا الفتات من قبيل لزوم ما لا يلزم.
وبذلك فإن الصفقة تكون قد اهتزت قواعدها وتوشك على السقوط من زاوية التمنّع الإسرائيلي عن قبولها، وعدم حماستها للاستمرار بها.
هذا هو بالضبط السبب الأهم والأكبر لمسلسل تأجيل الصفقة. وإذا كانت إسرائيل قد لعبت الدور الحاسم في تأجيل الإعلان عن هذه الصفقة، فإن الموقف الفلسطيني الصلب في مواجهتها، والحسم والعزم والإرادة السياسية القوية التي اتسم بها الموقف الفلسطيني قد جعل من هذه الصفقة هشّة إلى أبعد حدود الهشاشة والضعف.
وإذا كان بعض مستشاري الرئيس ترامب قد أوهموه بأن القيادة الفلسطينية في وضع صعب، وأنها أضعف من أن تتمكن من رفض الصفقة أو الوقوف في وجهها فقد تبين الآن أن هؤلاء المستشارين قد استغفلوا رئيسهم، أو أنهم كانوا على توافق تام وتنسيق كامل مع حكومة التطرف اليميني في إسرائيل، إذ حصلت إسرائيل على كل ما تريد و»لا بأس» أن تنتهي الصفقة عند حدود ما غنمتها منها، أو أن مستشاري السوء هؤلاء وبكل ما عرف عنهم من «تصهين» كامل الأوصاف قد أوهموا رئيسهم الذي يتسم بدرجة عالية من السذاجة والارتجال، بأن العرب، أيضاً، ليس أمامهم سوى تقديم الطاعة والولاء في ظل (التهديدات) الإيرانية لهم، وفي ظل حاجتهم الماسة للولايات المتحدة، وحتى إسرائيل لمواجهة هذا «الخطر»، الذي يداهمهم أو الخطر الذي تمثله إيران على وجودهم كله.
هنا بدأ الرئيس الأميركي يدرك أن الصفقة لم تعد حيّة، ولم يعد ممكناً طرحها بالصيغة التي كانت تعكسها تلك الأوهام والتصوُّرات التي زيّنها له فريقه المتصهين.
صحيح أن بعض العرب قد أعطوه بعض المؤشرات التطبيعية التي تجعله يطمئن إلى الولاء، ولكنه أدرك بالمقابل أنه يستحيل عليهم تجاوز الرفض الفلسطيني للصفقة، ويستحيل عليهم أكثر «هضم» مسألة القدس، وما تمثله من خطر قد لا يقلّ عن الخطر الذي تمثله إيران عليهم، وذلك بسبب حساسية المسألة الفلسطينية عند الشعوب العربية، وبسبب خطورة هذه الحساسية فيما يتعلق بالقدس تحديداً.
نتنياهو الذي يعتبر نفسه قد فاز بالإبل يعمل ليل نهار من أجل إيجاد زبائن جدد لنقل السفارات، وينوي أن يبتزّ كل من هو قابل للابتزاز في هذا العالم لتكريس ما غنمه من «الصفقة»، ويسعى بكل الوسائل «لإثبات» أن العرب يتهافتون عليه للحصول على دعمه «الأمني»، وأنهم جاهزون  لتجاوز المسألة الفلسطينية برمتها، إلاّ أن الواقع الفعلي يقول إن حدود هذا «التهافت» ضيقة للغاية وأن حظها من النجاح وفرصتها تكاد تكون معدومة.
وبالنظر إلى المحيط الدولي فإن أحداً جاء في هذا العالم لم ينظر إلى هذه الصفقة بعين الرضا أو القبول، حتى وإن كان الرفض الرسمي لها موارباً، وحتى لو أن اللهجة الدبلوماسية ما زالت طاغية في ثنايا هذا الرفض.
وفيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي وروسيا والصين فإن اللهجة الدبلوماسية للرفض ليست طاغية بل وان رفض هذه الصفقة من قبل هذه الأطراف يتم بالتخلّي تماماً عن هذه اللهجة.
نقطة الضعف في كل هذه الموازنة هو قطاع غزة، لأنّه المنفذ الوحيد لكي يتم إعادة إحياء طرح هذه الصفقة، أو ضخ دماء جديدة فيها، والخوف أن يتمكن نتنياهو بمساعدة قطر من فصل القطاع عن الجسد الوطني بعد استجابة حركة حماس لهذا الشرك الذي ينصب لنا جميعاً هناك.
لهذا كله فإن القيادة الفلسطينية مطالبة أن تقف أمام هذا المنفذ الخطر بكل حنكةٍ وحكمةٍ وتروٍّ، وبكل حسمٍ وعزمٍ لسدِّ هذا المنفذ وصد هذا الخطر.
حينها وحينها فقط يمكن أن نقول ونحن في غاية الاطمئنان أن «صفقة القرن» قد انهارت، والوقائع التي يعتقد اليمين المتطرف في إسرائيل بأنه قد غنمها وأصبحت جزءاً من الأمر الواقع هي في طريقها إلى الانهيار، أيضاً.