حان الوقت لتجاوز فرضيات «أوسلو» الخاطئة

حجم الخط

بقلم: ميخائيل سفارد

 


في الأسبوع الماضي نشرت محكمة اتحاد إسرائيل – فلسطين قرار حكم حول المسألة التي تشغل المواطنين في إسرائيل، الذين يعيشون في فلسطين منذ فترة طويلة. هذه المحكمة، التي يقع مقرها في القدس، ألغت قرار حكم المحكمة الفلسطينية العليا، وقررت بأن الإسرائيليين من سكان فلسطين يحق لهم الامتيازات الضريبية ذاتها الممنوحة لمواطني فلسطين، وأعلنت إلغاء البند ذا الصلة بقانون ضريبة الدخل الفلسطيني بذريعة أنه يخرق حلم البلاد الواحدة.
لم يحدث هذا بالطبع الأسبوع الماضي، وما حدث هو أن فوز جو بايدن على دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية حرك خلايا دماغ كانت في سبات عميق خلال اربع سنوات، وفجأة بدأت مصطلحات مثل «مفاوضات» و»عملية سياسية» و»حل الدولتين» في شق طريق عودتها الى الخطاب العام. ومن المبكر التقدير هل سنشهد استئناف «العملية السلمية» القديمة والدؤوبة؟ وبالأساس هل تم استخلاص الدروس من الاخفاقات السابقة؟ ولكن من المهم القول لكل من يدفعون لاستئنافها أنه من الممنوع العودة الى العوامل التي رسمت اتفاقات «أوسلو» بدون استخلاص العبر من اخفاقاتهم حتى الآن واجراء التعديلات الحادة الضرورية.
الفلسفة السياسية، التي توجد في اساس اتفاقات «أوسلو»، تقوم على فرضيتين. الأولى هي أن الشعبين الموجودين في هذه البلاد يريدان تطبيق حقهما في تقرير المصير بصورة سياسية، وأنهما لن يتنازلا عن هذا التطلع في المستقبل المنظور. لذلك فان مسار «أوسلو» يقود (رغم عدم قول ذلك بصورة صريحة ولم يتم فعل ذلك بصورة فعلية) الى دولتين مستقلتين. والفرضية الثانية هي أنه بعد اكثر من مئة سنة على النزاع بين شعبين يكرهان بعضهما فإن الاستقرار يحتاج الى الفصل الكامل بينهما، بما يشبه الطلاق بين زوجين لا يوجد لهما اولاد وليسا بحاجة الى ترتيبات لرؤيتهم. لهذا فان حلم «أوسلو» هو بدرجة كبيرة حلم حزين يمكن تشبيهه بصورة إسرائيليين وفلسطينيين يقفون وظهرهم الواحد للآخر. هؤلاء ينظرون نحو الغرب وأولئك ينظرون نحو الشرق وبينهما يفصل جدار عال يضمن أن كل واحد منهما سيتبخر من حياة الآخر. ليس بالضبط رؤية يوم القيامة، بل هو أشبه باتفاق هدنة.
لم ينجح مسار «أوسلو» في إطفاء نار النزاع لأسباب كثيرة. فللطرفين إسهامات كبيرة في الفشل رغم أن أساس المسؤولية يقع على إسرائيل التي هي الطرف الأقوى والمحتل. ومنذ أن وقعت على الاتفاقات زادت سرقة الاراضي، وزادت بأكثر من ثلاثة أضعاف عدد المستوطنين. ولكن هذا ليس كل شيء. ففحص دقيق وشجاع لمبادئ «أوسلو» يستوجب الاعتراف بأنه كان فيه عيب منذ الولادة. ففي حين أن الاتفاقات رسمت طريقاً كان يمكن أن تجيب على حاجة الطرفين الى تحقيق سياسي لطموحاتهما، وبهذا استبقا معالجة احدى غرف قلب النزاع. وقاموا بشل الغرفة الثانية من خلال الارتكاز على فكرة الفصل وتقسيم البلاد بإزميل، يراها الكثيرون من الشعبين وحدة واحدة قبل كل شيء، لأن تقديس الفصل هو استمرار للتعامل مع الطرف الآخر كعدو خطير يثير الاشمئزاز ويجب الابتعاد عنه وابعاده. وأوهام «نحن هنا وهم هناك» تعكس الكراهية وليس المصالحة، وتنمّي عدم الثقة والخوف التي هي نبوءة تجسد نفسها. يا الله كم جسدت نفسها في السنوات التي انقضت!
علاوة على ذلك، مثلما يوجد هناك إسرائيليون غير مستعدين للتفكير بأنه سيضطرون الى القيام بزيارة الحرم الإبراهيمي كسياح، وفي شيلو وبيت إيل، هكذا بالنسبة للفلسطينيين فإن يافا وحيفا لا تقل فلسطينية عن رام الله وجنين. العلاقات الثقافية، التاريخية والدينية للشعبين هي في كل البلاد وليس في جزء منها. هذا الفهم المهم لا يبدو لمهندسي «أوسلو» باعتباره عائقاً، وأنا أعترف بأنني، بصفتي شخصا علمانيا ولا توجد لدي أي صعوبة في ترك مواقع التوراة خلف الجدار الحدودي، لم أقدر بصورة صحيحة المعنى السياسي المهم للعلاقة التي يشعر بها الكثيرون في الطرفين بالبلاد كلها. هذه الصعوبة الى جانب الاستيطان والقمع الوحشي والنهب المنهجي من جانبنا وموجات العنف والعمليات من جانبهم، قوضت بصورة متواصلة فضاء المصالحة وشرعيتها، إلى درجة أن الشعبين فيهما اجزاء واسعة تنصلت من هذه الطريق التي رسمت في «أوسلو»، أوسع من أن تسمح بالقيام بمصالحة تاريخية («مؤلمة»).
بسبب ذلك، في الوقت الذي يرتكز فيه المبدأ الأول لنموذج الدولتين إلى فرضية صحيحة – أن الشعبين يريدان استقلالاً وطنياً على صورة دولة ذات سيادة (ليغفر لي من يؤيدون الدولة الواحدة): الجمهور في فضائنا لم يظهر أي دلائل على الانتقال الى عهد ما بعد القومية في القريب) – فإن تبني المبدأ الثاني، فصل وتقسيم شامل للبلاد، عكس الفشل في فهم مغزاه من ناحية إبقاء العداء بين الطرفين ورفع الثمن المطلوب دفعه من قبلهما في اتفاق الحل الدائم. بناء على ذلك فإن أي استئناف للعملية السياسية يحتاج من جهة الى الحفاظ على فكرة الدولتين، ومن الجهة الأخرى يحتاج الى التنازل عن فكرة الفصل. يبدو هذا متناقضاً؟ ليس بالضرورة.
إن مبادرة إسرائيلية – فلسطينية باسم «بلاد للجميع»، التي تعمل منذ بضع سنوات في إسرائيل وفي الضفة الغربية، تستهدف تربيع الدائرة. وقد أسسها الصحافي ميرون ربابورت والمحلل السياسي والناشط في «فتح»، عوني المشني، وكنت مشاركاً معهما ومع آخرين في صياغة مبادئها. تعترف المبادرة بالحاجة الى دولتين، ولكن ايضا بحقيقة أن مساحتها هي وحدة تاريخية، دينية وثقافية واحدة.
بناء على ذلك، فإن المبادرة تقترح كونفيدرالية بين دولتين مستقلتين في حدود مفتوحة، فيها مواطنو الدولتين هم في الوقت ذاته سكان البلاد جميعها. إسرائيليون، من بينهم مستوطنون، يعيشون الآن في الضفة الغربية يمكنهم أن يكونوا سكاناً في فلسطين. والمواطنون الفلسطينيون، من بينهم ايضاً لاجئون، سيصبحون مواطنين في فلسطين، يمكنهم أن يختاروا أن يصبحوا من سكان إسرائيل، بما يشبه الوضع في الاتحاد الأوروبي. ليس فوراً وليس الجميع – كل ذلك طبقاً لقدرة استيعاب الدولتين، تحت مبدأ أنه لا يمكن إصلاح الظلم بظلم، والسعي الى التمكين بحرية الاقامة الكاملة في جميع أرجاء الفضاء.
هذا النموذج، الذي يحافظ على العلاقة بين كلا الشعبين والبلاد جميعها، يرعى من جديد فضاء المصالحة ويخفف الصعوبة المرتبطة بترسيم حدود سيادية – مثلاً على الخط الاخضر. وبدلاً من تقسيم البلاد بين شعبين فان «بلاد للجميع» تقترح على الشعبين المشاركة فيها. وفي فرضية مناقضة تماماً لفكرة الفصل فإن نموذج الكونفيدرالية يقترح أن يكون للدولتين مؤسسات مشتركة في مجالات مختلفة، منها محكمة عليا لحقوق الإنسان، ستضمن بأن حقوق سكان الدولتين الذين ليسوا من المواطنين فيهما، تكون محفوظة.
أفترض أن الكثير من القراء يتساءلون في هذه المرحلة عن المادة التي قمت بتدخينها. أتفهم التشكك، لكني أيضا واثق من أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فإن من تجرأ على أن يقترح أن تكون هناك بين ألمانيا وفرنسا حدود مفتوحة وعملة واحدة وحرية إقامة للجميع، كان يجب عليه أن يذهب الى علاج نفسي. الأوروبيون أسالوا في النزاعات بينهم أضعاف الدماء التي أسالها الإسرائيليون والفلسطينيون، وفي نهاية المطاف فهموا أن الفصل ليس هو الحل، بل الاتحاد.

عن «هآرتس»